آراء حرة "إيست نيوز"
"وليد موسى"
شهد السوق العقاري في لبنان مؤخرًا صدور قانون تحرير الايجارات للأماكن الغير السكنية، وهو تطور مهم، لكنه لا يشكّل سوى محطة ضمن مسار أوسع نحو تحرير شامل للإيجارات، سواء السكنية أو غير السكنية.
لقد أصبح من الضروري اليوم إعادة تصحيح العلاقة بين المالك والمستأجر، بما يحقق العدالة ويعيد التوازن إلى سوق عانى طويلًا من اختلالات بنيوية وتشريعية مزمنة.
إن إنهاء عقود الإيجارات القديمة للعقارات المبنية التي انتهت مدتها الأصلية قبل 23/7/1992 يُنهي سنوات من الجمود، ويمنح المالكين حقهم المشروع في استثمار ممتلكاتهم ضمن منطق السوق. لكن في المقابل، فإن هذا التحول يحمّل الدولة مسؤولية كبرى في مواكبته بوضع ضوابط وآليات فعّالة، حتى لا يتحوّل التحرير إلى فوضى أو يؤدي إلى تهجير. المطلوب ليس انحيازًا لطرف على حساب آخر، بل مقاربة متوازنة تحفظ الحقوق، وتُعيد الثقة إلى البيئة الاستثمارية من جهة، وتحمي النسيج الاجتماعي للمدن من جهة أخرى، من خلال سياسات إسكانية وتحفيزات.
ومن أبرز النقاط المثيرة للجدل في القانون الجديد للإيجارات للأماكن الغير سكنية، تحديد بدل الإيجار بنسبة 8% من القيمة السوقية للعقار سنويًا. وهي نسبة مرتفعة نسبيًا في ظل الظروف الاقتصادية الراهنة، وكان من الأنسب ألا تتجاوز 5% لضمان توازن أفضل بين مردودية الاستثمار العقاري وقدرة المؤسسات والمحال التجارية على الاستمرار. غير أن التحدي الحقيقي لا يقتصر على تحديد النسبة، بل على آلية تقدير القيمة السوقية للعقار. وهذا يتطلب الاستعانة بخبراء تخمين عقاري يتمتعون بالكفاءة والنزاهة لتفادي أي تشويه في الأسعار أو ممارس.
الآثار المترتبة على هذا المسار التحريري ستتضح تدريجيًا في السوق العقاري. فمن المتوقع أن نشهد ارتفاعًا ملحوظًا في عدد الشقق المعروضة للإيجار، خصوصًا في بيروت، ما سيؤدي إلى انخفاض الأسعار ويجعل السكن أكثر توافرًا لشريحة أوسع من الناس. كما سيؤدي إلى عرض عدد كبير من الشقق القديمة للبيع بأسعار مقبولة، مما يتيح لفئات جديدة من المواطنين فرصة التملك داخل المدن، حتى وإن كانت في أبنية قديمة. لكن هذه الخطوة تُكرّس مبدأ الإدماج الحضري وتحدّ من النزوح نحو الأطراف.
كذلك، فإن إخلاء المباني المشغولة بعقود إيجار قديمة قد يتيح فرصة لتحويلها إلى أراضٍ صالحة للبناء أو البيع، ما يزيد من العرض في سوق الأراضي داخل المدن، ويؤدي إلى تراجع في أسعارها. وهو ما يمنح المطورين العقاريين فرصة حقيقية لشراء أراضٍ بأسعار منطقية، تنعكس إيجابًا على كلفة البناء وأسعار الشقق، لا سيما في المناطق الشعبية التي تعاني من نقص حاد في العرض.
ومن النتائج الإيجابية المنتظرة أيضًا، عودة الحياة إلى عدد كبير من الأبنية التراثية التي كانت تعاني من الإهمال بفعل تدني المردود من الإيجارات القديمة، ما جعل صيانتها وترميمها أمرًا صعبًا على المالكين. أما اليوم، ومع توفر مداخيل جديدة، فقد نشهد جهودًا متزايدة لإعادة ترميم هذه الأبنية، بما يُسهم في الحفاظ على الهوية الثقافية والمعمارية لمدننا.
كما سيُسهم تحرير الإيجارات في تحسين واجهات المدن والبنية التحتية لعقاراتها، بعد عقود من الإهمال. فحين يتلقى المالكون بدلات إيجار عادلة، يصبح بإمكانهم الاستثمار في صيانة مبانيهم، ما يحسّن من المشهد الحضري ووظائف المدن، ويُعيد إليها حيويتها.
وإلى جانب هذه الانعكاسات العمرانية، لا بد من التوقف عند الأثر المالي الإيجابي لهذا التحرير على الخزينة العامة. فالعقارات التي ستُرمّم أو يُعاد استثمارها ستؤدي إلى رفع قيمتها السوقية، ما يزيد من الضرائب العقارية المفروضة عليها. كما أن العقود الإيجارية الجديدة، التي تعكس أسعار السوق، ستُدرّ مداخيل أعلى على الدولة من خلال الضرائب على الإيجارات. وهذا بدوره يُمكن أن يُعزز قدرة الدولة على تمويل مشاريع البنى التحتية والخدمات العامة، ويُعيد تفعيل الدورة الاقتصادية من خلال قطاع عقاري نشِط ومُنظَّم. وهكذا، لا يقتص.
في النهاية، يُعدّ تحرير الإيجارات السكنية وغير السكنية فرصة حقيقية تساهم في إعادة إحياء السوق العقاري ضمن إطار حديث وشفاف. لكن نجاح هذا التحول يتطلب رقابة فعالة، وإدارة رشيدة، وخبرات مهنية، وقبل كل شيء، رؤية وطنية تعتبر السكن حقًا أساسيًا، والاستثمار العقاري محرّكًا للنمو لا وسيلة للربح السريع أو التصفية الاجتماعية. لقد بدأ المسار، والمسؤولية اليوم تقع على عاتق الجميع لضمان أن تكون النتائج في مصلحة البلد ومواطنيه.
وفي هذا السياق، نعود ونؤكّد على الحاجة الملحّة إلى إنشاء وزارة للإسكان، تكون مهمتها قيادة السياسات السكنية والإشراف على تنفيذها بما يحقق التوازن المطلوب.
رئيس نقابة الوسطاء والاستشاريين العقاريين في لبنان