بعد الجولة الأولى لمفاوضات مسقط الأميركية ـ الإيرانية السبت الماضي، والتي أشاع الجانبان أنّها كانت "بنّاءة وإيجابية"، دخل الجميع في انتظار لجولتها الثانية السبت المقبل، كون لبنان والمنطقة سيدخلان على ضوء نتائجها في مرحلة جديدة. ولكن هذه الحالة الانتظارية لم تلغ الاهتمام الداخلي بالملفات المطروحة من الإصلاحات الاقتصادية والمالية والمصرفية والإدارية، إلى ملف السلاح. في وقت عبرت أمس الذكرى الخمسين للحرب الأهلية على أجنحة سلسلة من المواقف المحلية والدولية التي دعت إلى استخلاص العِبَر والدروس منها، خصوصاً في ظلّ مواقف البعض التي تهّدد بتكرارها. فيما احتفلت الطوائف المسيحية بـ"أحد الشعانين"، قبل أن ينطلق اليوم "أسبوع الآلام" الذي سار فيه السيد المسيح على درب الجلجلة وصولاً إلى القيامة.
بعيداً عمّا يطرحه من مواقف هنا وهناك حول موضوع سلاح "حزب الله" ومصيره، بات واضحاً أنّ الحوار الذي اقترحه رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون، في شأن هذا السلاح لا يعني عقد طاولة حوار شاملة شبيهة بتلك التي عُقدت سابقاً، سواء برعاية رئاسة الجمهورية أو رئاسة المجلس النيابي، بل هي تقتصر على آلية محدّدة للحوار بين "الحزب" والرئيس عون، بمشاركة وتنسيق كاملين من رئيسي المجلس نبيه بري والحكومة نواف سلام. فهذه الآلية ستكون أكثر فاعلية وعملانية من طاولة الحوار الفضفاضة، التي تلقى اعتراضات قوية لدى بعض الأطراف في أي حال. وأكّدت مصادر متابعة لـ"الجمهورية" أنّ هذا المسار يلقى تأييداً من جانب "الحزب"، كما من جانب خصومه.
وأشارت المصادر إلى أنّ هذه الآلية ستشهد تفعيلاً بعد انتهاء أسبوع الأعياد، الذي سيكون فيه التركيز منصباً على الملف المالي- المصرفي، كما أنّ عون سيكون منشغلاً بزيارتيه لدولة الإمارات العربية المتحدة وقطر، ومن جهته، سيكون سلام قد أتمّ زيارته لدمشق. وأبدت المصادر تفاؤلها بحلحلة هادئة لملف السلاح، مبنية على الواقعية والتفهم لدى جانبي الدولة و"حزب الله"، انطلاقاً من وعي الطرفين لمخاطر المرحلة في لبنان والمنطقة.
سلام إلى دمشق
وفي غضون ذلك، تتّجه الأنظار اليوم إلى زيارة رئيس الحكومة نواف سلام على رأس وفد وزاري لدمشق، حيث سيلتقي الرئيس السوري احمد الشرع وعدداً من المسؤولين.
وقالت أوساط مطلعة لـ"الجمهورية"، إنّ هذه الزيارة تكتسب أهمية كبيرة، كونها ستشكّل فرصة لإيجاد أرضية صلبة من أجل إعادة ترتيب العلاقات اللبنانية - السورية على أسس سليمة، ومعالجة الملفات العالقة بين البلدين، والتي تشمل ضبط المعابر الحدودية لمنع التهريب وتفادي تكرار المواجهات المسلحة، ترسيم الحدود البرية والبحرية، عودة النازحين السوريين إلى بلادهم، كشف ملف المفقودين اللبنانيين، إلغاء المجلس الأعلى، مراجعة الاتفاقيات الثنائية، والتعاون الاقتصادي.
وأشارت هذه الأوساط إلى أنّ "اتفاق جدة" الذي رعته القيادة السعودية بمشاركة وزيري الدفاع في البلدين، مهّد الطريق أمام تخفيف التوتر الذي ساد قبل فترة بفعل الاشتباكات على الحدود الشرقية والشمالية بين عشائر لبنانية ومسلحين من "هيئة تحربر الشام"، ما سمح بالانتقال إلى المرحلة التالية وهي إعادة هندسة مجمل العلاقات الثنائية وفق قواعد ثابتة تراعي مصالح الدولتين وشعبيهما.
في ساحة الشهداء
وأكّد سلام الذي وضع أمس إكليلاً من الزهر على نصب الشهداء في وسط بيروت في الذكرى الخمسين للحرب الأهلية اللبنانية، أنّ موضوع المخفيين اللبنانيين في السجون السورية سيكون من ضمن المحادثات خلال زيارته لدمشق اليوم. وقال: "أتمنى أن أعود بأخبار طيبة عن المخفيين في سوريا، وغداً (اليوم) أخبركم بمزيد في شأن هذا الموضوع".
وفي ذكرى 13 نيسان أثنى سلام على أهمية وحدة اللبنانيين وقال: "هذه ساحة شهداء كل لبنان التي طالما جمعت بين اللبنانيين. ويهمنا أن نستعيد ثقة اللبناني وأن نساهم في عملية الإصلاح". وأضاف: "هذه الذكرى علّمت فينا ونتعلّم منها في أن لا نعيد ما كابده أهلنا. وحان الوقت لبناء دولتنا والثقة بها. وهذا الامر مطلوب منا نحن المسؤولين عن هذا البلد".
وعن قانون السرّية المصرفية، قال سلام: "هناك من استفاد من السرّية المصرفية لتبييض الاموال. وأهمية الاصلاح في هذا الجانب أنّه يساهم في استعادة الودائع".
وعن الوضع في الجنوب، قال: "لا داعي لبقاء إسرائيل في هذه النقاط لأننا في زمن الأقمار الاصطناعية، وفي إمكان الجميع أن يعرف ما يجري على الارض من دون أن يضع النقاط ويحتل".
وكان سلام كتب على منصة "إكس": "في الذكرى الخمسين لاندلاع الحرب اللبنانية، نقف اليوم لا لنفتح جراحًا، بل لنسترجع دروساً يجب ألّا تُنسى. كل الانتصارات كانت زائفة، وكل الأطراف خرجت خاسرة مهما تباينت الآراء حول أسباب الحرب، فهي تتقاطع عند مسألة غياب الدولة أو عجزها. لا دولة حقيقية إلّا في احتكار القوات المسلحة الشرعية للسلاح. فلنطّبق بنود الطائف بالكامل، ونصوّب ما طُبّق خلافاً لروحه ونسدّ ثغراته. دولة تحفظ الذاكرة لنتعلّم من ماضينا كي لا نكرّر أخطاءنا، مسؤولية الدولة أن تعالج ملفات المفقودين والمخطوفين بجدّية وشفافية. دعوة إلى دقيقة صمت وطنية شاملة ظهر 13 نيسان تحت شعار: منتذكر سوا لنبني سوا. فلنجعل من الذكرى الخمسين نقطة تحوّل... ولننظر معاً إلى لبنان جديد، يليق بتضحيات أبنائه".
البابا وماكرون
وفي الذكرى الخمسين للحرب الأهلية اللبنانية استذكر البابا فرنسيس لبنان أمس لدى ظهوره لفترة وجيزة في ساحة القديس بطرس في الفاتيكان، وقال قبل أن يعود إلى داخل مبنى الفاتيكان مع التوقف بين الحين والآخر للحديث مع بعض المحتشدين: "أحد شعانين مبارك وأسبوع آلام مقدس!".
ولم ينس البابا في كلمته من يعانون من نزاعات حول العالم، فقال عن الحرب في السودان: "صراخ آلام الأطفال والنساء والضعفاء يعلو إلى السماء ويتوسل إلينا لكي نتصرف. أجدد ندائي إلى الأطراف المعنية لكي يوقفوا العنف ويستأنفوا مسارات حوار، وأدعو المجتمع الدولي إلى تقديم المساعدات الأساسية للشعوب".
وعن النزاعات الأخرى في الشرق الأوسط والعالم، قال: "لنتذكر أيضًا لبنان الذي اندلعت فيه الحرب الأهلية لخمسين سنة خلت، لكي يتمكن، بمعونة الله، من أن يعيش في سلام وازدهار. ولتحلّ أخيرًا نعمة السلام في أوكرانيا المعذبة وفلسطين وإسرائيل وجمهورية الكونغو الديمقراطية وميانمار وجنوب السودان، ولتنل لنا مريم العذراء الأم الحزينة هذه النعمة ولتساعدنا على عيش أسبوع الآلام بإيمان".
ومن جهته، الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قال في تغريدة له على منصة "إكس" في الذكرى الخمسين لاندلاع الحرب الأهلية اللبنانية: "منذ خمسين عامًا، اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية. في هذه الذكرى الحزينة، أحيّي جميع ضحايا ذلك الصراع الرهيب سواء من قضوا، أم من هم في عداد المفقودين ومن أُجبروا على مغادرة وطنهم". تابع: "يمكن للبنان اليوم أن يخرج من "حروب الآخرين"، وأن يبني السلام والوئام الدائمين، في ظل دولة قوية وذات سيادة". وقال إنّ "فرنسا تقف إلى جانب لبنان والشعب اللبناني من أجل المضي قدمًا في هذا الاتجاه".
أحد الشعانين
وفي قداس أحد الشعانين في بكركي الذي صادف ذكرى 13 نيسان، قال البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي: "اليوم 13 نيسان 2025 يصادف مرور خمسين سنة على ذكرى اندلاع الحرب الأهليّة في لبنان (1975-2025) التي مزّقت حياتنا وطفولتنا وشبابنا، وشوّهت علاقاتنا بلبنان وببعضنا البعض". وأضاف: "طوى لبنان صفحة الحرب الأهلية واليوم يطوي صفحة الخروج عن الشرعية ومحاربتها، لكنّ طيَّ الصفحات لا يكفي. لا بدّ من قراءة الوقائع التي أوصلتنا إلى هذه الحال والتعلّم منها لأنّ من لا يفهم أخطاءه يكرّرها، ولا وقت للتكرار بعد اليوم لأنّ لبنان يحتاج مستقبلًا يليق بتاريخه. لذلك لا بدّ من إعادة درس ما حصل والتصالح والتصارح حتى نتخطّى هذه المرحلة تماماً كما نجحت بلدان أخرى في ذلك".
وبدوره متروبوليت بيروت وتوابعها المطران الياس عوده، قال خلال قداس الشعانين في كاتدرائية القديس جاورجيوس: "اليوم ذكرى بدء الحرب المشؤومة التي خلّفت دماراً وخراباً وحصدت أرواحاً بريئة وندوبها لما تندمل بعد. صلاتنا أن يكون اللبنانيون قد تعلّموا من دروس الماضي وأن تكون صور الحرب محفورة في ذاكرتهم لكي لا تتكرّر، وأن يشدّوا العزم من أجل بناء دولة قوية موحّدة لا تزعزعها رياح حرب أخرى، ولا تقوى عليها يد الشر فتخربها، وتبعثرها وهي لم تنهض بعد".
الوضع الجنوبي
وعلى الجبهة الجنوبية، استمرت إسرائيل في خرق وقف النار والقرار الدولي 1701، وكان جديد هذه الخروقات غارة لمسيّرة إسرائيلية بصاروخ موجّه على منطقة الدبش عند الأطراف الشرقية لبلدة يحمر الشقيف. فيما هدم الجيش الإسرائيلي تمثال القديس جاورجيوس في بلدة يارون في قضاء بنت جبيل، في انتهاك جديد لاتفاق وقف النار.
ونشر وزير العمل السابق مصطفى بيرم مقطع فيديو يوثّق لحظة هدم العدو التمثال وأرفقه بتعليق، قال فيه: "العدو الصهيوني يهدم تمثالاً له رمزية دينية مقدسة (القديس جاورجيوس) في جنوب لبنان (يارون) ويوثق ذلك بكل وقاحة، في تأكيد متكرّر لمعاداته لكل ما هو سواه، وأنّه كيان غريب محتل لا مكان له بين شعوب وأهل هذه المنطقة".
تسليم السلاح
وفي جديد مواقف "حزب الله"، قال عضو "كتلة الوفاء للمقاومة" النائب الدكتور إيهاب حمادة خلال احتفال تأبيني في الضاحية الجنوبية لبيروت أمس، "إنّ المشروع الأميركي- الإسرائيلي أعاد إحياء نفسه بأشكال قد تكون جديدة ولكن معلومة، ولكنه يتميّز الآن بمجموعة أمور مختلفة تاريخياً عن أدائه في المراحل السابقة، ولعلّ أهم هذه الأمور هو الاجتماع الغربي الشيطاني مع الولايات المتحدة الأميركية ومع العدو الإسرائيلي على مستوى التنفيذ، وبالتالي بات الكل في غرفة واحدة ويعملون ميدانياً، وأما الخطة الآن على مستوى الضغط وضبط الإيقاع والتخطيط، فهي بيد الأميركي، ولذلك من يقاتلنا الآن هو الأميركي بشكل مباشر، ولا يشكّل الكيان الإسرائيلي الغاصب إلاّ أداة قذرة لتنفيذ هذا المشروع".
ولفت حمادة إلى أنّه في هذه الآونة يكثر الحديث عن تسليم السلاح وما شاكل، علماً أنّ موقفنا في هذا الخصوص واضح، وهو ليس جديداً، فنحن ذهبنا إلى طاولة حوار لنبحث في الاستراتيجية الدفاعية، وعندما يصبح هناك استراتيجية دفاعية، يثق اللبنانيون حينها بأنّها تحمي الكيان والإنسان اللبناني والحدود والسيادة اللبنانية والاستقلال اللبناني الحقيقي، وكل ذلك في سياق داخلي ليس لأحد في الخارج الحق أو الشرعية في التدخّل ولو جزئياً أو على مستوى النصيحة، ونحن حاضرون ومنفتحون على هذا النقاش".