كتبت زيزي اسطفان في “الراي الكويتية”:
… قبل أشهرٍ فقط كان العابرون في وسط بيروت يشعرون بثقلِ الأجواء الكئيبة التي تخيّم فوق المدينة التي تحوّلت نسخةً باهتةً عن ذاتها. الشوارعُ خاويةٌ إلا من الذكريات، والمحالُ مقفلةٌ ببواباتِ حديدٍ كأنها تسرد فصولاً من وجع بيروت، والأسلاكُ الشائكةُ ترتفع كحِرابٍ تَحفر في الوجعِ وتزيد من غربةِ الناس عن عاصمتهم.
اليوم تَغَيَّرَ المشهدُ مع انطلاقةِ ورشةِ استعادة سيادة الدولة والقانون فاستردّت بيروت نبضَها: وَقْعُ خطواتِ المتنزّهين في الشوارع يختلط بأصوات الضحكات وثرثراتُ رواد المقاهي، كما تختلط قرقعةُ فناجين القهوة بالموسيقى التي تنبعث من ملاهي المدينة التي عَرفت كيف تنفض عن نفسها الرمادَ وتعود إلى الحياة.
… هذه ليست صورةٌ شِعرية، بل هذا ما يَحدث فعلياً في وسط بيروت التجاري الذي يَنهض من كبوته ويعاود اكتشافَ نفسه كمركزٍ اقتصادي وسياحي وثقافي، لا للعاصمة فقط، بل لكل لبنان. إنها عودةٌ لا إلى ما كان عليه الوسط فقط، بل إلى ما يجب أن يكون، متسلّحاً برؤى ارتسمتْ مَلامِحُها مع بداية العهد الرئاسي الجديد.
المقاهي الفاخرة تعجّ بالزوار، السياح العرب الذين هَجَروا بيروت لأعوام يتنقّلون في شوارعها كما لو كانوا يستعيدون مشهداً من الزمن الجميل وإن لم تكتمل عودتهم بعد، والناس كل الناس يتهافتون على حَجْزِ مَقاعد لهم في المقاهي والمطاعم وأمام واجهات المحال التجارية.
نبض الحياة
وسط بيروت، القلبُ الرمزي للعاصمة اللبنانية حيث تتقاطع الذاكرة السياسية والتاريخية والثقافية، كاد أن يتوقّف بعدما مرّت عليه عواصف متلاحقة: من احتلاله بـ «الخِيم» في أطول اعتصامٍ في التاريخ، إلى الأزمة الاقتصادية الطاحنة وانتفاضة 17 تشرين الأول 2019، فانفجار مرفأ بيروت المروّع في 4 آب 2020 الذي دمّر أجزاء واسعة من المدينة، وصولاً إلى جائحة كورونا التي أقفلت الأبوابَ والآمال، وبعدها ما شهدته البلاد مع «حرب لبنان الثالثة»… كلها كوارث طمرت كل بادرة أمل فيه، قبل قطرة الضوء التي لاحت مع العهد الجديد.
خلال الأعوام العجاف، سدّتْ غالبيةُ المحال أبوابَها، وتحوّلت الشوارعُ مساحاتٍ صامتة. ساحة النجمة مُنيت بالعزلة ومُنعت على الرواد واستمر مبنى البرلمان فيها وحيداً يَستقبل نواباً عَصِيَ عليهم إعادةُ شعلة الحياة إليها. شارع المصارف تحوّل ثكنةً مُحْكَمَة التدابير الأمنية فنسي زبائنَه والعابرين فيه. حتى المقاهي التي تَهافت إليها الناس من كل لبنان خفتتْ أضواءها. وبحسب إحصاءات صادرة عن نقابة أصحاب المطاعم والمقاهي، فقد أقفل أكثر من 700 مطعم ومقهى في بيروت وحدها بين عامَي 2019 و2021، وكثير منها كان في الوسط التجاري.
اليوم يسعى وسط العاصمة لنفْض الغبار عنه و إن كان مازال يئنّ، فالمهمةُ صعبة والناس يكادون لا يجرؤون على الأمل، لكن بيروت مصممة على العودة. وفي حديث خاص أجرتْه «الراي» مع أديب النقيب، المدير المسؤول في «سوليدير»، الشركة التي تتولى إعادة إحياء وسط بيروت، تَبَيَّن أن الأرقام باتت تعكس تحوّلاً واضحاً يوحي باستعادة الثقة والأمل الكبير بالغد. فقد بلغت نسبة إشغال الشقق السكنية نحو 95 في المئة. أما المكاتب فبلغت 80 في المئة، مع توقعاتٍ بارتفاعها إلى 90 في المئة خلال موسم الصيف. والمحال التجارية تراوح نسب إشغالها بين 75 في المئة و80 في المئة. وعلى الواجهة البحرية، وصلت نسبة الإشغال إلى 95 في المئة، وتشمل مطاعم، ملاه ليلية، صالات رياضية وقاعات مناسبات… ولمَن لا تقنعه الأرقام، يكفي أن يمرّ على البولفار البحري، من المرفأ إلى عين المريسة ليشاهد بأمّ العين عجقةَ الرواد والسيارات والمتنزّهين التي تشهدها المنطقة.
هذه النسب لا تعبّر فقط عن انتعاشٍ اقتصادي، بل عن ثقة متجددة ببيروت كوجهةٍ حيوية. ففي بلادٍ تعاني أزماتٍ متراكمةً وتبقى قادرةً على استقطاب مستثمرين وسياح بهذا الزخم، يشكّل هذا دليلاً على أن وسط بيروت يملك تلك الروح الخاصة التي لا يمكن دفنها.
من الأسواق إلى… الساحة
في مجمع «أسواق بيروت»، بدا المشهد مختلفاً عمّا كان عليه قبل مدة. محال معروفة عاودت فَتْحَ أبوابها، عائلاتٌ تتسوق، شباب وفتيات يرتادون صالات السينما، وصغارٌ يركضون بِحريةٍ في المساحات المفتوحة. حتى التفاصيل الصغيرة: الباعة، حرّاس الأمن، صراخ الأطفال والموسيقى المنبعثة من المتاجر… كلها تروي حكاية مدينة تهمّ باستعادة ألقها.
فمجمع «أسواق بيروت» الذي شكل علامة بارزة في الوسط التجاري يشهد ما يمكن تسميته «ولادة ثانية»، مدعوماً بافتتاح علامات تجارية عالمية مثل ALO Yoga وTUMI، وافتتاح مرتقَب لمفاهيم حصرية مثل Zara Café وEataly، فضلاً عن فرع جديد لمحل ROLEX.
ومَن يعرفون بعض تلك المحال في دول أوروبا أو بلدان الخليج، لا يكادون يصدقون أنها افتتحت فروعاً لها في بيروت وقد شهد إحداها زحمةً لا تُصدق يوم افتتاحه أثارت الكثير من الدهشة حول قدرة اللبنانيين على تلقف كل جديد والاحتفاء به ولو على حساب قدراتهم المادية.
وفي حديثنا مع النقيب، عَلِمْنا أن 89 علامةً تجارية مميّزة باتت حاضرةً اليوم، ومن المتوقّع أن ترتفعَ نسبةُ الافتتاحاتِ إلى نحو 90 في المئة خلال الصيف، مع مجيء 31 علامة جديدة تدريجاً لكن هذا التحوّل لم يحصل بمحض الصدفة، بل نتيجة خطة مدروسة تهدف إلى معاودة إحياء المنطقة لتكون مركزاً نابضاً، ومقصداً للزوار من الداخل والخارج.
… من الذاكرة إلى المستقبل
من أكثر ما يحنّ إليه كل زائر لوسط بيروت التجاري رؤيةُ ساحة النجمة تستردّ نبضَ الحياة. لقد أُزيلت الحواجزُ التي كانت تقطع أوصال الساحة، وأُعيد ربطُها بالأسواق وشارع المصارف وميناء الحصن، ليصبح الوسط التجاري كله متّصلاً، نابضاً، ومفتوحاً أمام الجميع. ما كان محرّماً على العامة، بات اليوم مساحةً عامةً بامتيازٍ يلهو فيها الأطفال بأمان ويَفرح بهم الأهل… سهيلة، إحدى الأمهات الشابات اللواتي التقين بهن قالت «كان حلمي أن يلعب طفلي في ساحة النجمة كما كنت أفعل حين أعاد الرئيس رفيق الحريري الحياة إلى بيروت».
لكن المحلات والمقاهي لم تَفتح جميعها بعد، فبيروت تسعى لإيجاد خطة مدروسة تعيد ضخ الحياة في وسطها إنما ليس على حساب المناطق السياحية والتجارية الأخرى. وحين سألْنا عن المخاوف من المنافسة مع مناطق مثل مار مخايل أو الجميزة، كان الجواب واضحاً: «لا نسعى للمنافسة، بل للتكامل». الرؤيةُ اليوم هي لمدينة متعددة المركز، تتكامل فيها المساحات المختلفة لتقديم تجربة شاملة للزائر والسائح. لكن رغم هذا السعي ما زال بعض أصحاب المقاهي في الجميزة يترددون في الانتقال الى بيروت ويقول أحدهم «مررْنا بتجربة مُحْبِطَة أكثر من مرة ولسنا مستعدين الآن لتكرارها، فلننتظر ونرَ ما سيكون عليه الوضع قبل أن نقرر الانتقال إلى وسط بيروت».
أما أحد المطاعم في منطقة ميناء الحصن فلم يتردد بافتتاح فرعه في بيروت وكان مُصِرّاً على تقديم تجربة مميزة لزبائنه تختصر الذوق الراقي بديكوره وأصنافه اللبنانية المعروفة.
… لكل منطقة طابعها
بعيداً عن النظريات والخطط على الورق، مَن يَزُرْ بيروت يشعر بتعددِ الفضاءات فيها رغم صغر مساحتها، فيتنقّل بين الجميزة للعشاء، ووسط بيروت للتسوّق أو دور السينما، والواجهة البحرية للسهر، والصيفي فيلادج لمقاهي الأرصفة و البوتيكات الحِرَفية، وكل ذلك في تَكامُلٍ حيوي يعيد الروحَ للعاصمة.
«الصيفي فيلدج» مساحة تستحق التوقف عندها، تجمع التراث اللبناني مع لمسات إيطالية بروحٍ تَصهر الحداثة مع التقاليد. وقد تحوّلت «القرية» الى استوديو مفتوح في الهواء الطلق. ومَن يتنزه في المكان لابدّ أن يصادف «عرسان» يأخذون أجمل الصور في إطارٍ تراثي وأن يلتقي بأفواج من السياح العرب يستمتعون بأجواء افتقدوها طويلاً ويتسوّقون من البوتيكات الفاخرة التي تعجّ بها الشوارع الضيقة.
أما ميناء الحصن، فصار منطقةً ترفيهية بامتياز تضمّ عشرات المقاهي والمطاعم التي تجذب محبّي السهر والترفيه، وتشهد في المساء ازدحاماً لافتاً، حيث يكاد يصعب إيجادُ كرسي في مقهى أو مكاناً في مطعم. فاللبنانيون المقيمون كما المغتربون يتبارون في مَن يسبق الآخَر على حجْز مكان له في إحدى تلك الأسماء المعروفة ولو أصبحت أسعارُها خارج متناول الناس العاديين.
أما في الواجهة البحرية، فتصطف «اللونجات» والملاهي الليلية، وتتحوّل مساءاتُ بيروت إلى مهرجاناتٍ للحياة في مشهدٍ لم نرَه منذ أعوام، ومساحاتُها المفتوحة الى مواقف عملاقة لأفخم السيارات.
وفي وسط هذه الصورة الزاهية المستجدة لبيروت بدأت أصوات اللهجة الخليجية تعود إلى الشوارع، والمقاهي تستقبل ضيوفَها كما كانت تفعل في أوائل الألفية. وقد شهد عيد الفطر مجيء مئات السواح الخليجيين والعراقيين والأردنيين، ووصلتْ ملاءة فنادق بيروت الى ما يقارب 90 في المئة. وهناك تنسيق حثيث بين «سوليدير» والهيئات السياحية لتعزيز هذا الاتجاه، من خلال ترويج بيروت كوجهة فريدة تربط بين الحداثة والعراقة.
ويقول المدير المسؤول في سوليدير «بدأنا نرى حجوزات الفنادق ترتفع، واستفساراتٌ عن فرص التملك أو الاستثمار تتزايد من الكويت والمملكة العربية السعودية وقطر».
خلف هذه النهضة التي يتشارك في صُنْعِها مُحِبّو بيروت وشركة «سوليدير» تعمل هذه الأخيرة على «تقديم حوافز عدة للمستثمرين: من تسهيلات في الإيجار إلى دعم خاص للعلامات الفريدة، كل ذلك في إطار رؤية متكاملة تجعل من الوسط التجاري لا مجرد مساحة جغرافية بل وجهة للقلب والعقل»، كما يؤكد النقيب مع سعي خاص للخروج من المفاهيم التقليدية وتقديم أخرى مبتكَرة في عالم الضيافة والتسوّق، بعيداً عن التكرار والنسخ وضمن خطةٍ أكبر تُعنى بإحياء البنى التحتية وتعزيز الخدمات العامة.
ولم يَعُدْ ليل بيروت مثيراً للقلق والكآبة كما تقول راغدة التي كانت قبل الانفراجة تغادر مكتبَها مساء والخشيةُ تملأ قلبَها من السير وحيدةً في الشارع المُظْلِم وصولاً الى سيارتها. فبيروت التي عاشت الظلمة لأعوام طوال استعادتْ النورَ بمعناه الحقيقي مع سعي «سوليدير» بالتعاون مع بلدية بيروت لإنارة شوارع الوسط التجاري بالكامل، وتنظيف الجدران لتستردّ المدينةُ وهجَها ويستعيد الناسُ الإحساسَ بالأمان فيها.
صيف لبنان الذي بات محطة ينتظرها المقيمون والمغتربون والسياح سيحط رحاله هذه السنة في بيروت التي تستعدّ لصيف مليء بالمفاجآت. فالفعاليات التي بدأت منذ الميلاد والقرية الرمضانية، ستستمر خلال الأعياد وفي أشهر الصيف مع تنظيم مهرجانات كبرى في الواجهة البحرية بمشاركة فنانين عرب وعالميين. وتُعدّ هذه الفعاليات عنصراً أساسياً في استراتيجية إعادة الحياة إلى وسط بيروت، بحيث تصبح المدينة محطّة دائمة على خريطة السياحة الثقافية والترفيهية في المنطقة.
بيروت لأهلها ومحبيها
صحيح أن الأزمات لم تنتهِ. فالوضع الاقتصادي العام ما زال هشاً، والاستقرار الإقليمي لا يخلو من الأخطار. لكن الواقع في وسط بيروت يُظْهِرُ ديناميةً جديدة، وإصراراً جَماعياً لمسناه عند كل مَن قابلناهم من مواطنين ومستثمرين لإعادة قلب العاصمة إلى الخفقان الجميل. فالرهانُ اليوم كما يؤكد هؤلاء ليس فقط على السياحة، بل على استعادة بيروت لمكانتها كمدينةٍ تعجّ بأهلها وتنبض بالحياة اليومية.