عاجل:

حرب إسرائيلية «هادئة» فوق الخرائط... لتقسيم سوريا واحتواء «حزب الله» (الراي الكويتية)

  • ٢٢

.. مع تصاعد التوترات على طول الحدود الشمالية لإسرائيل، تطور الصراع الطويل الأمد مع «حزب الله» من مواجهة مباشرة إلى صراع أكثر دقة وإستراتيجية. صراع يُخاض في شكل متزايد ليس في ساحات القتال، بل على الخرائط.

لا تُعرّف هذه «الحرب الهادئة» بالتصعيد التقليدي، بل بإعادة رسم الحدود، وفرض المناطق العازلة، والغموض المدروس.

وهذه الأدوات لا تهدف إلى احتواء الحزب فحسب، بل إلى تقسيم سوريا تدريجياً وإعادة تشكيل ميزان القوى في المنطقة، وتتكشف عواقب ذلك بالفعل في كل أنحاء جنوب لبنان، وسوريا.

تستمر عمليات الاغتيال الإسرائيلية اليومية لعناصر «حزب الله»، والضربات على مخابئ الأسلحة، بلا هوادة. فإسرائيل محت كل الخطوط الحمر السابقة، منتهكة في شكل روتيني وقف إطلاق النار وقرار مجلس الأمن الرقم 1701 بدعم أميركي صريح.

وتُكمّل هذه الإجراءات إستراتيجيةً أوسع نطاقاً، لإضعاف الحزب عسكرياً مع تقويض شرعيته من خلال المناورات الدبلوماسية وإعادة تحديد الحدود الإقليمية.

ولهذا، فإن إسرائيل صعّدت حملتها الإقليمية عبر سلسلة من الهجمات في سوريا تُذكّر بتكتيكاتها في لبنان. فقصفت قواتها في الأيام الإخيرة هدفاً بالقرب من القصر الرئاسي في دمشق، في تصعيد رمزي وإستراتيجي.

أعقب ذلك ضربات إضافية في كلٍّ من السويداء والعاصمة السورية. ويترافق هذا النمط مع ضربات إسرائيل المستمرة في لبنان، ما يرفع المخاطر على جبهات عدة في المنطقة.

في صميم هذه الإستراتيجية تستغل إسرائيل الانتقال السياسي في سوريا، إذ أتاح سقوط بشار الأسد وظهور سلطة انتقالية بقيادة أحمد الشرع، فرصاً لتحقيق أجندة راسخة تتجلى في إعادة رسم حدود خصومها الشماليين عبر ترسيم الحدود الذي ينقل مناطق غامضة تاريخياً من لبنان إلى سوريا، لتُضعف إسرائيل المطالبات القانونية لـ«حزب الله» بهذه الأراضي، وتالياً، مُبرّره للمقاومة المسلحة.

مزارع شبعا

لننظر إلى مزارع شبعا، وهي منطقة صغيرة لكنها بالغة الأهمية رمزياً. يؤكد لبنان أنها أرض محتلة، بينما تُصرّ إسرائيل على أنها أرض سوريا احتلتها عام 1967.

إذا استمرت سوريا، بقيادة الشرع، على موقفها الغامض أو غير الحاسم في شأن ملكيتها، يُمكن لإسرائيل أن تُجادل بأن وجود «حزب الله» هناك غير شرعي. تُحوّل إستراتيجية إعادة التصنيف هذه الحزب، من حركة مقاومة وطنية إلى ميليشيا مدعومة من الخارج.

ينبع تفضيل إسرائيل لاستغلال سوريا على لبنان من ضعفها الحالي. فبينما ما زال الحزب، راسخاً سياسياً وعسكرياً في لبنان، تُمثّل سوريا ما بعد الأسد ساحةً أكثر مرونة. إذ تُعزز إسرائيل موقعها في مرتفعات الجولان، وجبل الشيخ، ومحافظات السويداء والقنيطرة ودرعا. وتحت ذريعة حماية الأقلية الدرزية في سوريا، شنّت إسرائيل غارات جوية وطائرات مُسيّرة على قوافل في المنطقة، مُبرّرةً تدخلاتها بأنها إنسانية ولمصلحة الموحدين الدروز.

وتفاقم مظاهر الانقسام في سوريا هذه الإستراتيجية. إذ يُقوّض انسحاب القوات الكردية من محادثات إعادة التوحيد مع دمشق، آفاق قيام دولة متماسكة. وقد كشفت الاشتباكات الدامية عن انقسامات طائفية.

لذا فإن هذه الانقسامات الداخلية تُصبّ في مصلحة إسرائيل الإستراتيجية.

وأصبحت أهداف إسرائيل أكثر وضوحاً، إذ حدّد وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، أخيراً رؤيةً للتحول الإقليمي: تقسيم سوريا، تهجير الفلسطينيين من غزة، وإضعاف إيران و«حزب الله» في شكل دائم. وأعلن أن حملة إسرائيل لن تنتهي إلا بطرد مئات الآلاف من سكان غزة، وتفكيك سوريا، وسحق «حزب الله».

من هنا فإن هذه الحرب لم تعد حرباً من أجل الأمن، بل هي مخطط لإعادة هندسة إقليمية.

وتبدو واشنطن في خضم هذا الواقع منحازة. فرغم التحول في دمشق، ما زالت العقوبات الأميركية المفروضة خلال فترة حكم الأسد سارية، مما يقوض قدرة القيادة الجديدة على تحقيق الاستقرار. فعدم وجود تعويضات عن الأضرار التي سببتها الحرب، إلى جانب الضغط الاقتصادي المستمر، يشير إلى أن واشنطن وتل أبيب غير مهتمتين بسوريا ذات سيادة ومستقرة.

بالتوازي مع ذلك، قد تؤدي جهود ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا في ظل القيادة الجديدة إلى عزلة أكبر لـ«حزب الله». فتوضيح المناطق المتنازع عليها يزيل الغموض الذي استخدمه الحزب منذ فترة طويلة لتبرير وجوده المسلح.

إذا تم إعلان هذه المناطق سورية وفشلت دمشق في تأكيد سيادتها، فقد يتم تقويض موقف «حزب الله» المقاوم بشدة.

ومن الواضح ان إسرائيل تضغط على واشنطن من أجل تسويق تصور يقوم على دولة سوريا مكونة من جيوب لامركزية على أساس عرقي.

ويشمل الاقتراح مناطق منزوعة السلاح قرب حدود إسرائيل، ما يحد من أي تهديد مستقبلي من جيش سوري موحد أو «حزب الله». وأفادت التقارير بأن الشرع أعرب عن معارضته الشديدة لمثل هذه الخطط.

يدرك «حزب الله» هذا التهديد. وتشير الخطب الأخيرة لقادته إلى قلق متزايد في شأن هذه «الحرب الناعمة» - وهي حملة لا تُخاض بالضربات الجوية فحسب، بل بالخرائط والمناورات السياسية أيضاً.

فإذا قبل لبنان تعديلات الحدود التي تُضعف مزاعم الاحتلال، فإن «حزب الله» يُخاطر بفقدان الرواية ذاتها التي تدعم وجوده.

وما زال المشهد السياسي الداخلي في لبنان منقسماً. فبعض القوى ترى أن ترسيم الحدود أمرٌ متأخر؛ بينما يراه آخرون محاولةً مدعومة من الغرب لتحييد «حزب الله».

تُؤطر الولايات المتحدة وحلفاؤها هذه التغييرات على أنها «استقرار»، مما يُمكّن من تحقيق مكاسب إستراتيجية دون نشر عسكري علني.

في نهاية المطاف، فإن التنافس على الأرض هو أيضاً تنافس على الشرعية. فبإعادة رسم الحدود والتأثير على السرديات الإقليمية، يتيح لإسرائيل إعادة صياغة «حزب الله» ليس كمدافع عن السيادة الوطنية، بل كلاعبٍ عفى عليه الزمن في حقبة ما بعد المقاومة.

إنها حرب هادئة - حربٌ تُقايض انتصارات ساحة المعركة بانتصاراتٍ بيروقراطية، تُخاض في الوزارات وغرف الخرائط بدلاً من الخنادق... في رقعة الشطرنج المتطورة في الشرق الأوسط، من يتحكم في الخريطة يتحكم في المستقبل.

المنشورات ذات الصلة