كتب جوني منيّر:
ما إن انتهت الإنتخابات البلدية حتى اندفعت القوى والأحزاب اللبنانية في إجراء استعراض إعلامي لعضلاتها الشعبية، مستندة إلى حسابات وتحليلات مبالغ فيها لمساحة نفوذها على الأرض. فمن الواضح أنّ معظم هذه القوى جعلت من استحقاق عنوانه إنمائي، منصّة اختبار مبكرة للانطلاق إلى الإستحقاق النيابي السياسي بعد أقل من سنة.
صحيحٌ أنّ المبالغات تشكّل في العادة سمة من سمات أساليب الدعاية السياسية التي تنتهجها القوى السياسية اللبنانية، إلّا أنّ منسوب هذه المبالغات كان أعلى مع الإستحقاق البلدي الأخير لأسباب عدة، منها ما هو متعلق بقرب موعد الإستحقاق النيابي، ومنها ما يتعلق بالسعي لخلق صورة أقوى له بعد تبدّل المشهد في لبنان والمنطقة، وعلى أنقاض المرحلة الماضية. أي السعي إلى ملء بعض الفراغ الناجم عن سقوط معادلة وظهور أخرى، ولو من خلال «مناورات» إعلامية وصوتية.
وفي وقت لم تظهر مفاجآت بالمعنى الحقيقي للكلمة على مستوى الساحة المسيحية، خصوصاً بعد التدقيق في تفاصيل الأرقام والنتائج، نجح «الثنائي الشيعي» في اجتياز الإمتحان من خلال إظهاره أنّه لا يزال يُمسك بساحته جيداً. فعدا بعض الخروقات، أظهرت الساحة الشيعية إلتفافاً حول قيادتها على رغم من وجود عدد من المآخذ لديها نتيجة الحرب والواقعين المعيشي والمالي، وهو ما يدفع إلى الإستنتاج بأنّ الساحة الشيعية تحمل قلقاً جدّياً من التحدّيات التي تعترضها والتي تضعها على المستوى الوجودي. وما يضاعف من «مخاوفها الوجودية» هو الخطاب الغرائزي الذي يستخدمه البعض من دون حدّ أدنى من المسؤولية.
تبقى الساحة السنّية، والتي أستخلصت دروسها بلا ضجيج إعلامي صاخب. وأهمية الإشارات الصادرة عن الساحة السنّية أنّها تختزن ما بين رواسب المرحلة الماضية، والتي أدّت إلى فراغ سياسي لا يزال ساري المفعول بسبب تجميد تيار «المستقبل» لعمله السياسي، وما بين المستجدات التي طرأت على المعادلة الجديدة بدءاً من لبنان وصولاً إلى سوريا.
لا شك في أنّ الرئيس سعد الحريري تابع من كثب الإشارات السياسية التي زخرت بها «الصناديق السنّية». وإذا كان صحيحاً أنّ زيارة الحريري لبيروت في ذكرى استشهاد والده لم تنجح في فك أسر تياره، ما جعله يستنكف عن المشاركة في الإنتخابات البلدية، إلّا أنّ الخرق المدوّي لمحمود الجمل في بيروت لا شك أنّه سيزيد من اقتناع الحريري بالمشاركة في الإنتخابات النيابية. فهنالك من يهمس في أذنه بأنّ عدم مشاركته في الانتخابات النيابية المقبلة سيعني إقفال الباب نهائياً وإلى الأبد على أي عودة سياسية له. ويضيف هؤلاء، أنّ الإنتخابات هذه المرّة لن تحتاج إلى كثير من المال، لا بل هنالك من يستذكر «تسونامي» ميشال عون غداة عودته إلى لبنان عام 2005 بعد خروج الجيش السوري. يومها نشأت معادلة لبنانية جديدة إثر خروج الجيش السوري من لبنان، واليوم هنالك معادلات جديدة في لبنان وفي سوريا وفي المنطقة ككل. وبالتالي أظهرت صناديق بيروت بأنّ هنالك بوادر «تسونامي سنّي» يمكن أن يحصل في الإنتخابات المقبلة.
ولذلك، تحدّثت بعض المعلومات عن وجود فكرة لدى فريق القريب من الحريري يجري درسها وتقضي بأن يعود الرئيس الحريري إلى بيروت في ذكرى غي ذكرى استشهاد الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2026، وسط مهرجان شعبي أوسع من الذي حصل في المرة الماضية وأن يبقى في بيروت في بيت الوسط، وصولاً حتى موعد الانتخابات في أيار من العام المقبل.
وإذا صدقت الهمسات حول موانع إقليمية لا تزال قائمة، هي التي أدت إلى وقوف تيار المستقبل جانباً في الانتخابات البلدية، فإنّ المتحمسين للمشاركة في الإستحقاق النيابي يعتقدون أنّ مؤشرات عدة مقلقة ظهرت على مستوى الساحة السنّية في الإنتخابات البلدية، ستؤدي إلى إزالة «الفيتو» عن عودة تيار «المستقبل» إنطلاقاً من مبدأ الواقعية السياسية. فالتيارات الإسلامية سجّلت نمواً ولو محدوداً في الصناديق، ووفقاً لمبدأ «الطبيعة تأبى الفراغ». وهو ما يعني احتمال تسلّل قوى إقليمية إلى الساحة اللبنانية من خلال هذه المجموعات، كمثل تركيا التي أضحت قوة أساسية في سوريا. وهذا ما يتطلّب إعادة ملء الفراغ الحاصل عبر قوة سياسية معتدلة وحقيقية لا شكلية. كذلك هنالك بوادر عودة لنشاط تنظيم «داعش» الذي يؤسس لمرحلة دموية في سوريا، وفي الوقت عينه يعمل على إعادة تفعيل نفسه في لبنان. أضف إلى ذلك وجود تحدّيات أساسية أمام الدولة اللبنانية لناحية نزع سلاح المخيمات الفلسطينية، والجميع يدرك الترابط الموجود بين هذه المخيمات وجوانب من الساحة السنّية.
فخلال الأسابيع الماضية اكتشفت مديرية المخابرات في الجيش اللبناني خلية كبيرة لـ»داعش» كانت وضعت خطة تحرك للقيام بعمليات تفجير تطاول أهدافاً للدولة اللبنانية. وأحد أبرز هذه الأهداف كان مهاجمة السجون، حيث يتواجد معتقلون للتنظيم بهدف إطلاقهم. وهذه الخلية كان أعضاؤها يتوزعون بين الشمال والبقاع الأوسط ومخيم عين الحلوة. صحيحٌ أنّ هذه الخلية كانت تملك التمويل المطلوب للقيام بعمليتها، إلّا أنّ الأخطر ما تمّ اكتشافه من خلال مراسلاتها الداخلية. ففيما كانت تعمل في السابق تحت عنوان «ولاية الشام»، ظهرت الآن وللمرّة الأولى عبارة «ولاية لبنان». وهو ما يعني وجود آلية عمل جديدة خاصة بلبنان، ما يدفع إلى الإستنتاج بوجود برنامج عمل حافل لـ»داعش». مع التذكير بأنّ «داعش» كان قد غاب عن المشهد اللبناني منذ العام 2018، وتحديداً منذ عملية «فجر الجرود».
وهذه العودة إلى لبنان تترافق مع رفع مستوى نشاط هذا التنظيم الإرهابي في سوريا، وهو ما يطرح علامات إستفهام كثيرة عن الجهة الحقيقية التي تريد الإستثمار من خلال إرهاب «داعش». ففي سوريا نفّذ تنظيم «داعش» عمليات عدة في الآونة الأخيرة خصوصاً في حلب. كذلك اكتشفت السلطات السورية مخبأ أسلحة له بالقرب من دمشق، وهو ما يوحي بأنّه يعمل على بناء بنية تحتية متكاملة. وليس سراً أنّ «داعش» يسعى لإطلاق نحو 9 آلاف عنصر له مسجونين لدى «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد). وفي النشرة الإخبارية الأخيرة للتنظيم «النبأ» تمّت دعوة المقاتلين الأجانب للمجيء إلى سوريا، وفي الوقت نفسه تمّ حضّ عناصر «هيئة تحرير الشام» على الإنشقاق والتمرّد على قيادتهم.
وهذا الواقع يدفع السلطات اللبنانية إلى إتمام ملف سلاح المخيمات بلا تأخير، خصوصاً أنّ التحقيقات التي تجريها الأجهزة الأمنية تُظهر دائما وجود كوادر إرهابية تختبئ في مخيم عين الحلوة. ومن هنا وجوب إعادة إخضاع المخيمات الفلسطينية لأحكام القانون اللبناني، خصوصاً بعد الغاء إتفاق القاهرة المعقود عام 1969 والذي منح الإمرة القانونية يومها لـ»الكفاح المسلح» التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية. لكن المسألة ليست بالسهولة والبساطة التي يعتقدها البعض. فهذه المخيمات متجذرة بالتأثيرات الإقليمية حيث مصالح الدول التي رغبت دائماً بالإمساك بالورقة الفلسطينية، فكيف الحري الآن؟ ففي مخيمات لبنان الـ12 نحو 250 ألف فلسطيني يتوزعون على تنظيمات عدة أكبرهم على الإطلاق حركة «فتح». أما حركة «حماس» ومعها حركة «الجهاد الإسلامي» ومجموعات أخرى تدور في فلكها، فيتراوح عديد عناصرهم ما بين 1000 الى 2000 مقاتل. ولهؤلاء علاقات مع قوى لبنانية عدة كالجماعات الإسلامية و»حزب الله». إلّا أنّ وجودهم الأساسي يتركّز في مخيم عين الحلوة. لذلك لحظت الخطة التي تمّ وضعها ما بين السلطات اللبنانية والفلسطينية أن تبدأ المرحلة الأولى من مخيمات بيروت، على أن يُترك مخيم عين الحلوة إلى المرحلة الثالثة والأخيرة. ذلك أنّ حضور السلطة الفلسطينية قوي في مخيمات العاصمة الثلاثة، وعلى عكس حضور «حماس» ومن يدور في فلكها. لكن هذا لا يخفف من حجم المخاطر الموجودة خصوصاً في مخيم برج البراجنة حيث يزدهر وجود عصابات الإتجار بالمخدرات. ووفق ذلك سيشكّل موعد منتصف حزيران إمتحاناً لمستوى التعاطي الجدّي للسلطة الفلسطينية مع ملف سحب السلاح من المخيمات. لكن في كل الحالات، فإنّ الدولة اللبنانية اتخذت قرارها، وهي عازمة على تنفيذه ولن تتراجع عنه، وكل الخيارات موضوعة على الطاولة بما فيها التنفيذ بالقوة، على أن تكون الأولوية للتفاهمات السياسية. ويأمل المسؤولون أن يؤدي نجاح المرحلة الأولى إلى التمهيد لإنجاح المرحلة الأخيرة والمقصود مخيم عين الحلوة أو «عين المشكلة».
وصحيحٌ أنّ المعادلات الإقليمية انقلبت رأساً على عقب، إلّا أنّ التسويات العريضة لم تستقر بعد، وهو ما يدفع لحسابات في منتهى الدقة والحذر. وعلى سبيل المثال وإثر سقوط نظام الأسد في سوريا، عمد الجيش اللبناني إلى السيطرة على القواعد العسكرية للجبهة الشعبية ـ القيادة العامة، والتي كانت تلوذ بالولاء الكامل لدمشق. وهو ما يبين بوضوح أهمية العامل الإقليمي في المخيمات الفلسطينية.
وفي أيلول 2023 اندلعت فجأة إشتباكات واقتحامات في عين الحلوة بين مجموعات إسلامية صغيرة نسبياً، ولكنها تمتاز بالحيوية، وبين حركة «فتح» الأكبر حجماً، ولكنها بدت وكأنّها شاخت. وأدّت النتيجة إلى تراجع نفوذ «فتح» لمصلحة «حماس» والمجموعات الإسلامية. مع الإشارة إلى أنّها حصلت قبل أسابيع معدودة من عملية «طوفان الأقصى».
في سوريا نجح أحمد الشرع في إغلاق مقار التنظيمات الفلسطينية المصنّفة حليفة لإيران. أما في لبنان فالتحدّيات أكبر، خصوصاً أنّ ترتيب الملف الفلسطيني يأتي تحت عنوان سعي الدولة اللبنانية إلى احتكار السلاح.
كل هذه الإستحقاقات والتحدّيات الكبرى التي تواجه لبنان قد تكون في حاجة الى إعادة ملء الفراغ السياسي الموجود على الساحة السنّية، أو على الأقل هذا ما يأمله سعد الحريري.
ووسط الصخب الناتج من التقييم السطحي والضيّق للنتائج السياسية للإستحقاق البلدي لدى بعض الأطراف، بدأ التحضير فعلياً للإستحقاق النيابي. والمشكلة هنا أنّ البعض يستسهل إطلاق الشعارات الغرائزية على أساس أنّها الأسهل في تعبئة الشارع وشدّ العصب. لكن الظرف قد يكون في حاجة إلى مقدار أعلى من المسؤولية منه إلى اللعب بالعواطف وربما المصائر.