بقلم: عصام شلهوب
في مسرح السياسة اللبنانية، اعتاد المواطن أن يكون المتفرج الدائم على فصول من الخداع والتذاكي، لكن الفصل الجديد فاق كل التوقّعات: قرارٌ مبهم من مجلس الوزراء بإعادة سعر صفيحة البنزين إلى ما كانت عليه عند تشكيل الحكومة، أي حوالى 22 دولارًا، وكأن الأزمة لم تترك في جيوب الناس سوى الهواء.
لا تفسير واضحًا، لا آلية محددة، لا رؤية اقتصادية تُفهم. بل قرارٌ مُلتبسٌ يخفي خلف سطوره نيّة معلنة: تثبيت تسعيرة المحروقات وتحرير ضرائبها تدريجيًا، بما يضمن للدولة حصّتها من جيوب الناس، ولو على حساب فتات معيشتهم. وكأن الحكومة، في استعراضها هذا، تقول صراحة: إن لم نستطع أن نرد أو نستردّ ما نُهب من أموال المودعين، فلتكن السرقة علنية هذه المرّة، وعلى الملأ.
إنها مهزلة الدولة التي تقف عاجزة أمام المصارف، لكن شرسة حين يتعلق الأمر بالفقير والعامل وسائق التاكسي. فعوضًا عن أي محاولة لاستعادة الـ61.95 مليار دولار التي تبخّرت من حسابات مصرف لبنان، والتي تمثّل أكثر من 56% من أموال المودعين، قرّرت السلطة أن تبحث عن تعويض سريع من صفيحة البنزين ـ العصب الحي لكل حياة اللبناني.
هل تدرك الحكومة ما يعنيه قرار كهذا في حياة الناس؟ وفق دراسة حديثة، فإن كل زيادة قدرها 0.25 دولار على ليتر البنزين تُخفض القدرة الشرائية للأسر اللبنانية بنسبة 5.4%، وتُغرق شريحة واسعة من المواطنين في دوامة الفقر.
وما يزيد الطين بلة، أن هذا القرار يُطبّق في وقت لا تزال فيه التقارير الدولية تتحدث عن تهريب أكثر من 2.7 مليار دولار إلى الخارج خلال عام الانهيار وحده، أي عام 2020، معظمها من كبار النافذين، فيما يُمنع صغار المودعين من سحب ما تبقّى من ودائعهم.
أما عن استخدام الدولة لأموال المودعين، فقد بلغت نفقات الحكومة من ودائع الناس نحو 48 مليار دولار خلال السنوات الأخيرة، وفق تحقيقات موثقة، ما يعكس استباحة واضحة للمال العام والخاص.
فأي سلطة هذه التي لا تملك الشجاعة لفرض ضرائب تصاعدية على من راكموا المليارات من عمولات الكهرباء والتهريب والعقارات، لكنها تجد في رفع سعر البنزين حلاً اقتصاديًا “عبقريًا”؟ وأي إصلاح هذا الذي يبدأ من جيب المواطن ولا يطال أصحاب الودائع “المهرّبة” إلى سويسرا ولوكسمبورغ ودبي؟
أيّها السادة، لا يُبنى وطن بالتحايل على الفقر. ولا تستعاد الثقة بسياسات الغموض والتذاكي. ما تفعلونه ليس إصلاحًا، بل جريمة اقتصادية ممنهجة تُغرق الطبقة الوسطى وتُجهز على الفقراء، وتُمعن في سحق ما تبقّى من كرامة اللبناني.
كفى عبثًا. كفى ذرًّا للرماد في العيون. كفى نهبًا ممنهجًا باسم “الإنقاذ”.