كتب إيليا مغناير في “الراي الكويتية”:
مع تخطي حرب إسرائيل على قطاع غزة شهرها الـ20، تتزايد المخاوف من احتمال فتح جبهة جديدة في لبنان قريباً. ففي ظل تزايد القيود المفروضة على حملة غزة بسبب الغضب الدولي، والاضطرابات الداخلية في تل أبيب، وقرب وقف نار موقت محتمل، قد يسعى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى فتح ساحة معركة جديدة – ساحة تُتيح له مكاسب إستراتيجية وتحوّلاً في مسار الضغط السياسي.
لكن السؤال هو: هل الحرب وشيكة، أم أنها مجرد حلقة أخرى من حلقات سياسة حافة الهاوية في مواجهة مستمرة منذ عقود؟
منذ حرب عام 2006، تم الحفاظ على التوازن الهش على طول الحدود الإسرائيلية – اللبنانية إلى حد كبير من خلال الردع الذي فرضته قدرات «حزب الله» وقرار مجلس الأمن الرقم 1701، الذي نصّ على وقف الأعمال العدائية، ونشر القوات المسلحة اللبنانية في الجنوب، وانسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي اللبنانية.
فسحب الحزب مقاتليه من جنوب نهر الليطاني، وانتشر الجيش اللبناني في المنطقة.
تعثر إعادة الإعمار
مازالت مناطق شاسعة في جنوب لبنان، والضاحية الجنوبية لبيروت، وسهل البقاع، في حالة دمار، من دون مسار واضح للتعافي وإعادة الإعمار.
والأهم من ذلك، أن إسرائيل لم تنسحب بالكامل. بل حافظت على سيطرتها على مرتفعات إستراتيجية، بما في ذلك أجزاء من مزارع شبعا وخمس قمم تلال إضافية وخط المنطقة العازلة داخل الأراضي اللبنانية، وهي تُعيد بناء موقعين إضافيين في اللبونة وآخر في القرب من العديسة، منتهكة بذلك القرار 1701 والبروتوكولات الإضافية التي وافقت على الالتزام بها بعد حرب 2024.
بالإضافة إلى انتهاكاتها الإقليمية، واصلت إسرائيل ضرب عرض الحائط بالسيادة اللبنانية من خلال عمليات اغتيال بين حين وآخر، من دون أي تداعيات دولية تُذكر.
هذه الأنشطة قوّضت مصداقية وقف النار، وتركت جنوب لبنان، وضاحية بيروت، ووادي البقاع، في حالة توتر دائم وفقاً لتقارير قوات «اليونيفيل».
في الداخل، يواجه نتنياهو ردات فعل عنيفة ومتزايدة على إدارته للحرب في غزة، حيث استشهد أكثر من 53 ألف فلسطيني، وفقاً لتقارير وزارة الصحة في غزة، مدعومة بأرقام من وسائل إعلام دولية ومنظمات إنسانية.
وكانت منظمة «اليونيسف» أعلنت أن «أكثر من 50 ألف طفل سقطوا أو جُرحوا منذ تشرين الأول 2023».
مع تزايد نفاد صبر واشنطن وتصاعد الاحتجاجات في جميع أنحاء إسرائيل، يبدو أن نتنياهو يبحث في شكل متزايد عن وسيلة إستراتيجية لتشتيت الانتباه سعياً لمواصلة الحرب.
حتى في ظل اتفاق موقت لا يرقى إلى مستوى وقف نار دائم، يحتفظ نتنياهو بحرية التصرف من جانب واحد – وهو أمر مارسه مراراً وتكراراً للحفاظ على ائتلافه الحاكم الهش.
وتشير مساعي المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف إلى رغبة واشنطن في تهدئة الصراع، لكنها لا تقدم أي ضمانات ملزمة باحترام نتنياهو للشروط، وتالياً لا يوجد مسار واضح لإنهاء الحرب أو الانسحاب من غزة، حتى بعد عودة جزء (ربما 8 أو 10، أو الجميع في النهاية) من الرهائن الإسرائيليين الـ 20 المتبقين على قيد الحياة، إلى جانب العديد من الجثث الـ38، في الأيام الأولى لوقف إطلاق النار. إذ إن الغموض في الاتفاق يترك مجالاً لمزيد من التصعيد، وليس الحل.
حدّد نتنياهو أهدافاً لحكومته يعلم أنها غير قابلة للتحقيق كالقضاء على «حماس» وإنقاذ جميع الرهائن. هذه ليست أهدافاً عسكرية واقعية بل هي دعائم سياسية تهدف إلى إطالة قبضته على السلطة، بحماية غالبية موالية في الكنيست، مع إبقاء البلاد في حالة حرب لتجنب المساءلة.
المفاوضات النووية
مازالت الحرب مع إيران غير مطروحة حالياً. إذ تتقدم المفاوضات النووية بين طهران وواشنطن في إطار دبلوماسي إيجابي ومستمر، وقد أوضح الرئيس الأميركي دونالد ترامب لإسرائيل أن أي ضربة على إيران قد تُعرقل هذه المحادثات، وتالياً «إنها فكرة سيئة».
أما بالنسبة إلى جماعة الحوثيين في اليمن، فإن الغارات الإسرائيلية أحدثت دماراً في البنية التحتية ولكنها لم تُسفر عن أي مكاسب عسكرية أو سياسية ملموسة.
فقد فشلت الضربات الإسرائيلية في ردع صواريخ الحوثيين على إسرائيل، خصوصاً مطار بن غوريون، مما أجبر ملايين الإسرائيليين على اللجوء إلى الملاجئ، ولكن من دون التسبّب في أي إصابات.
لبنان… آخر جبهات الحرب؟
من هنا، فإن هذا الواقع يجعل لبنان المسرح الأكثر جاذبية للتصعيد. فاستمرار «حزب الله» في معاودة تنظيم نفسه وتجهيز عدته ورفضه نزع سلاحه يمكنه من البقاء شوكة دائمة في الحسابات الإستراتيجية الإسرائيلية.
في هذا السياق، قد تُصوّر إسرائيل حملة جوية جديدة كخطوة ضرورية لـ«نزع سلاح حزب الله» و«حماية شمال إسرائيل»، مع أنه يستحيل تحقيق هذه الأهداف وإلى حد كبير بالقوة الجوية وحدها.
قد تكون حملة قصف جديدة هو كل ما يبحث عنه نتنياهو لتبرير وجوده، بغض النظر عن النتيجة، حتى يتمكن من عرض إنجازاته، كما فعل في الأشهر الأخيرة، مستشهداً بحربه على جبهات عدة وقائمة الدمار والقتل التي حققها.
الهدف الأكثر ترجيحاً سيكون إلحاق ضرر مجتمعي كبير بقاعدة دعم «حزب الله»، كما فعلت إسرائيل في غزة.
وتشير العقيدة العسكرية الإسرائيلية لـ«استراتيجية الضاحية»، التي سميت على اسم الضاحية الجنوبية لبيروت يوم تعرضت لقصف مكثف عام 2006، إلى استهداف البنية التحتية المدنية المستخدمة كمرافق ذات استخدام مزدوج من الجماعات المسلحة.
يبدو أن هذا المبدأ قد أُعيد تطبيقه في غزة، ولا يُستبعد امتداده إلى لبنان، لاسيما في ظل الهيمنة الجوية الساحقة، واعتقاد نتنياهو بأن «حزب الله» قد تم ردعه لسنوات عدة مقبلة.
في حال شنت إسرائيل حملة جوية واسعة النطاق ضد المدنيين، فمن المتوقع أن يرد الحزب. ومع ذلك، قد تتفاوت طبيعة هذا الرد ونطاقه.
إذا ظل الهجوم محدوداً، فإن «حزب الله» وبحسب مصادر قريبة منه قد يمتنع عن التصعيد – خصوصاً إذا تكبّد خسائر مادية محدودة. لكن إذا استُهدفت البنية التحتية المدنية على نطاق واسع وبلغت مستوى دمار شامل يطول المدنيين، فإن الرد مضمون تقريباً.
مخاطر محسوبة
بالنسبة إلى إسرائيل، فإن منطق التصعيد، سياسي وعسكري. على الصعيد الداخلي، قد تُحوّل الحرب في لبنان انتباه الرأي العام بعيداً عن غزة وتُقدم نتنياهو كقائد حاسم. عسكرياً، قد تُراهن إسرائيل على أن الضربات المحدودة لن تُثير حرباً شاملة، مع استمرارها في إتلاف البنية التحتية للحزب… لكن هذا افتراض خطير.
بالنسبة إلى «حزب الله»، عدم الرد الحاسم قد يُضعضع شرعية الحزب الداخلية، لاسيما بين قاعدته الشيعية في الجنوب وسهل البقاع. وكما رأينا في حرب 2024، فإن الهدف الإستراتيجي ليس فقط البقاء والسعي إلى إطالة أمد الحرب، بل الحفاظ على صدقيته كحركة مقاومة مدعومة.
وإزاء هذه المعطيات يمكن القول إنه لا يُمكن تجاهل شبح حرب جديدة على لبنان. فمع وصول غزة إلى وقف نار محتمل، يبقى لبنان الجبهة الوحيدة التي يُمكن لإسرائيل أن تُعيد فيها تأكيد ردعها.
ومع ذلك، فإن مثل هذه الحرب لن تُشبه حرب 2024. فـ«حزب الله» أكثر استعداداً، وإسرائيل أكثر عزلة، وتالياً، فإن الحرب لن تكون مُتعلقة بالقضاء على الحزب، بقدر ما ستكون مُتعلقة بإعادة ضبط الموقف الإستراتيجي لإسرائيل في المنطقة… ويبقى أن نرى ما إذا كانت هذه المُقامرة ستنجح أم ستتحوّل إلى صراع أوسع إذا حصلت.