عاجل:

إسرائيل تريد إبقاء لبنان تحت النار

  • ٢٨

كتب جوني منيّر:

ليس صحيحاً أنّ واشنطن طوت الملف اللبناني وأعادت وضعه على الرف في مقابل التركيز على الملف السوري. فالصحيح هو أنّ إدارة ترامب أبقت الملف اللبناني على الطاولة، ولكن مع إعطاء الأولوية في هذه المرحلة للملف السوري لأسباب عدة، أبرزها الغموض الذي يكتنف مستقبلها وأهميتها الجغرافية. وتكفي الإشارة إلى تطرّق الرئيس الأميركي دونالد ترامب خلال جولته الخليجية إلى الأوضاع اللبنانية مرّات عدة وبإسهاب، كإشارة واضحة إلى حضور الملف اللبناني في الورشة القائمة للمنطقة.

ولذلك، قد يكون السؤال الأكثر دقّة يتمحور حول حقيقة المشاريع الجاري رسمها للمنطقة، والتي يشكّل لبنان أحد جوانبها. وخلال الفترة الأخيرة حصلت «صدامات» عدة بين إدارة ترامب والحكومة الإسرائيلية تحت عنوان وقف الحرب على غزة. لكن المطلعين على أجواء واشنطن يعزون أسباب هذا الصدام إلى تضارب حيال الرؤيا المستقبلية الجاري رسمها للمنطقة، ولو من خلال النظرة إلى مصير أوضاع غزة. ففي الكواليس الأميركية إجماع على أنّ التبدّلات الكبرى التي نتجت من الحرب التي حصلت أدّت الى إحكام القبضة الأميركية على الشرق الأوسط بكامله. فالجيش الأميركي أصبح صاحب الكلمة الأولى في منطقة كان بدأ يترسخ فيها النفوذ العسكري الروسي، إضافة إلى بدء الصين بالتسلل إليها من خلال العناوين الإقتصادية والإستثمارية. وكانت المعادلة الإقليمية القائمة تسمح بذلك بسبب النفوذ الإيراني الواسع فيها. لكن الحرب قلبت الأوضاع رأساً على عقب، ورسّخت معادلة مختلفة أصبح من خلالها للقيادة الوسطى الأميركية اليد الطولى في المنطقة. فطائرات الإستطلاع الأميركية المتطورة تقوم بتغطية كل أجواء المنطقة على مدار الساعة وتحت المتابعة الدائمة للأقمار الصناعية العسكرية الأميركية، وهو ما بات يحتّم على الطائرات العسكرية الروسية الموجودة في قاعدة حميميم التنسيق المسبق مع القيادة الوسطى الأميركية قبل القيام بأي نشاط جوي لها.

ووفق أوساط ديبلوماسية مطلعة، فإنّ النقاش الدائر في أروقة مراكز صنع القرار هو حول الصورة المستقبلية للمنطقة، والتي يبدو أنّ اللوبي اليهودي الفاعل، والذي يحمل مشروعاً كبيراً، يحاول إمرار تصوره، والقائم على تفتيت المنطقة عبر تحويل الدول القائمة إلى دويلات طائفية ومذهبية. أليس هذا ما يفسّر ما دأب نتنياهو على ترداده دائماً حول تغيير وجه الشرق الاوسط؟

ولذلك، يتمحور الخلاف بين واشنطن وتل أبيب حول إيران. ذلك أنّ دونالد ترامب ومعه مراكز صنع القرار يتمسكون بضرورة إنجاز تسوية كبرى مع إيران عنوانها الملف النووي، ولكن مضمونها غير المعلن يطاول تفاهمات حول المنطقة. فإدارة ترامب تراهن على أنّ النظام القائم في إيران، صحيح أنّه ديني وإيديولوجي ولكنه في الوقت نفسه واقعي وعملي. ولذلك فهو يدرك جيداً معنى الخسائر التي تكبّدها «محور المقاومة»، ما يجعله أكثر مرونة وواقعية في التعامل مع الظروف والوقائع الجديدة. ووفق الأوساط الديبلوماسية المطلعة، فإنّ نقاشاً واسعاً يدور داخل أروقة القرار الإيراني، وتحديداً داخل جناح المحافظين، حول الوجهة الواجب اتخاذها حيال المفاوضات مع واشنطن. الوجهة الأولى عقائدية ومتشدّدة، وتتمسك بالعمل على إعادة بناء المحور الإقليمي مهما كلّف ذلك من وقت وجهد، وبالتالي السعي لاستهلاك الوقت والرهان على الفوضى التي ستنشأ عاجلاً أم آجلاً. لكن وجهة النظر الثانية تنظر إلى الأمور بواقعية أكبر، وهي تدرك أنّ التبدّلات الكبرى التي حصلت، خصوصاً في سوريا، من الصعب إن لم يكن من المستحيل تعويضها على المديين المنظور والمتوسط، لا بل فإنّ واقعاً جديداً نشأ ويرتكز على إيديولوجيا دينية معاكسة وسط موجة معادية واسعة في ساحات البلدان القريبة من إيران، ما يفتح باب مخاطر أكبر تجاه من كان يُصنّف كحليف لإيران.

ويضيف هؤلاء على ذلك الواقع الإقتصادي الإيراني المزري وفقدان الغطاء الدولي، ما يضع الإستقرار الداخلي واستمرارية النظام القائم في دائرة الخطر. وتعتقد هذه الأوساط أنّ مرشد الثورة والذي أصبح متقدّماً في السن، يميل أكثر إلى وجهة النظر الثانية، ولكن مع شرط عدم التخلّي عن الخطاب المعتمد.

ووفق النظرة الأميركية، فإنّ إعادة صوغ خريطة النفوذ الإقليمي لن تمنح إيران أي نفوذ في سوريا ولبنان. قد تكون هنالك جوائز ترضية في اليمن وترتيبات محدودة في العراق، وهو ما يشكّل ترجمة سياسية للتبدلات الميدانية التي طرأت.

لكن اللوبي اليهودي يرى الأمور بنحو مختلف. فهذا الفريق، والذي في المناسبة ليس على علاقة طيبة مع نتنياهو ولو أنّه ملتزم حتى العظم بديمومة الكيان الإسرائيلي، يرى أنّ الظروف أصبحت تسمح بإحداث انقلاب كامل في المنطقة. فأعضاء هذا اللوبي كانوا في السابق من أنصار قيام الدولتين كحل دائم لاستمرار بقاء إسرائيل. لكن نظرتهم تبدلت إثر الوقائع الجديدة إن على المستوى الفلسطيني أو على مستوى المنطقة. وبات هؤلاء أقرب إلى فكرة «تصفية» الواقع الفلسطيني بعد ما حدث في غزة، والإنتقال إلى الضفة الغربية لتثبيت واقع مختلف. ولذلك يعتقد هذا اللوبي أنّ النزاعات الدينية والمذهبية التي مزّقت الأنسجة الداخلية لدول سايكس بيكو، دفعت الأمور قدماً وجعلت الظروف مهيأة لفرز خرائط جديدة تسمح بقيام دويلات طائفية صغيرة لن تشكّل تهديداً مستقبلياً لإسرائيل. واستطراداً، فإنّ إنجاز تفاهمات أميركية مع إيران قد يشكّل عائقاً أمام الذهاب إلى هذا الواقع، فيما المطلوب توجيه ضربات عسكرية لإيران بعدما أصبحت دفاعاتها العسكرية أكثر ضعفاً، وهو ما سيفتح الباب بنحو أوسع في اتجاه مشاريع التفتيت.

لكن مراكز صنع القرار الأميركي لا تستسيغ مشاريع دفع إيران إلى فوضى غير محسوبة النتائج. فواشنطن التي تضع في أولويتها مواجهة تمدّد التنين الصيني، تراهن على دور مساعد لإيران متعافية، فيما العكس سيشكّل نقطة لمصلحة الصين وروسيا. ولدونالد ترامب أسباب إضافية تتمحور حول حاجته إلى عقود إقتصادية تساهم في إنقاذ الإقتصاد الأميركي من خطر السقوط. فالتقييم الداخلي أنّ الإقتصاد الأميركي كان يتّجه بخطى سريعة في اتجاه الإفلاس. ولذلك حمل ترامب قضية إعادة تركيز الإقتصاد الأميركي. من هنا مثلاً إعتبار زيارته للخليج تاريخية. ومن هذه الزاوية أيضاً هو ذلك الإتفاق مع أوكرانيا حول معادنها النادرة، والتي أمّنت الحماية الأميركية أمام «شهوة» روسيا للسيطرة على كل أوكرانيا. ووفق هذا المنظار يمكن النظر إلى أحد جوانب الإتفاق مع إيران، حيث الإستثمارات المتبادلة ستشكّل نقاط قوة لاقتصادات البلدين، مع الإشارة هنا إلى المعادن النادرة التي تختزنها الطبيعة الإيرانية. وطبعاً ستسعى واشنطن لاحتكار التعاون الإقتصادي مع إيران، وهو ما يغضب أوروبا العاجزة عن المواجهة.

وترامب الذي عانى من تراجع شعبيته بسبب النتائج السلبية لرفع الرسوم الجمركية، يبدو قلقاً من المؤشرات المبكرة لخسارة حزبه الإنتخابات النصفية. وهو ما سيعني في حال حصوله استعادة محاولات عزل ترامب عبر إطلاق تحقيقات تتعلق بسياسته الجمركية واتهامه بالسعي للتلاعب بالأسواق المالية، وأيضاً بمساعدة إيلون ماسك على الفوز بصفقات خاصة بشركة «ستارلينك». وكذلك التصويب عليه من باب فشله في وقف حرب أوكرانيا وإنهاء عدوان غزة كما وعد، والتباعد مع أوروبا وإحداث توتر مع حلفاء تقليديين مثل كندا. ولا شك في أنّ كل ذلك يؤرق ترامب، خصوصاً أنّه يدرك بأنّ اللوبي اليهودي القوي سينشط ضدّه.

ولكن وبعد إبعاد إيلون ماسك عن الحكومة وتعليق خطط رفع التعريفات الجمركية، تحسنت أرقام ترامب في آخر الإستطلاعات، ووصلت إلى 47,1%. وهو ما يجعله أكثر اندفاعاً لإنجاح مفاوضاته مع إيران، والتي ستجمع بين الدوافع الإقتصادية والأمنية والإستراتيجية.

لكن التجارب التاريخية في المنطقة أظهرت أنّ إسرائيل كانت تنجح في نهاية الأمر في تثبيت مشاريعها. وجاءت تغريدة المبعوث الأميركي إلى سوريا توم براك لترسم علامات استفهام كبيرة. فالسفير الأميركي وعبر منصة «إكس»، انتقد بحدّة إتفاقية سايكس بيكو. ولأنّ منشوره كان على حسابه الرسمي وليس الشخصي، فلا بدّ من قراءة خلفياته بتمعنٍ وليس بسطحية. فهو كأنّه يتحدث عن ملامح جديدة لدور أميركي في المنطقة والقائم على أنقاض النفوذ الفرنسي والبريطاني التاريخي. أي بروز معادلة جديدة تمهّد لمشاريع أكبر، ولو أنّ ملامحها لا تزال غامضة.

ووفق ما سبق، يمكن تبيان معنى التعنت الإسرائيلي في وقف الحرب نهائياً على غزة. وأقصى ما وافق عليه نتنياهو ومعه اليمين المتطرف هدنة موقتة تسمح باستعادة الحرب بعد انقضائها. ذلك أنّ إسرائيل واللوبي اليهودي باتا يضعان «حل الدولتين» خلف ظهريهما. والمشروع الذي أدّى إلى اغتيال إسحق رابين أصبح بالنسبة إليهما من الماضي. هما يريدان الذهاب لاحقاً وبواسطة الدبابات إلى الضفة الغربية، وهو ما يحتم استمرارية حال الحرب.

وللأسباب عينها، لا تريد إسرائيل تثبيت وقف إطلاق النار في لبنان. واستطراداً فهي لن تنسحب من النقاط الخمس ولن تتوقف عن الإستهداف الجوي اليومي. فهي تريد إبقاء الوضع في حال الحرب، علّها احتاجت مستقبلاً لرفع مستوى النار انسجاماً مع مشاريعها.

فصحيحٌ أنّ واشنطن تراهن على رئاسة أحمد الشرع في سوريا، لكنها تعرف أنّه لا يمسك بكل الأرض السورية، في وقت بدأت التنظيمات الخارجة عن سيطرته بالتحرك لإثبات حضورها، إضافة الى تنظيم «داعش» الذي بدأ يبرز أنيابه. أما اللوبي اليهودي فهو لا يؤيّد التقييم الأميركي حيال الشرع، إذ إنّه يعتقد بأنّ نشأة الشرع لا تسمح بالرهان عليه وعلى اعتبار أنّه يشتري الوقت، وأنّ أحداث الساحل السوري مع العلويين والجنوب مع الدروز تبعث على القلق. فإما أنّه يتعاطى وفق أسلوب التقية، أو أنّه لم يستطع فعلاً ضبط الأوضاع، وهو ما يجعل النتيجة واحدة. وعلى رغم من تشكيك اللوبي اليهودي بنيات الشرع، إلّا أنّه سيعتمد سياسة مراقبة الشرع من كثب ولكن تحت النار.

وانطلاقاً من هنا، تقول الأوساط الديبلوماسية، إنّه جاء من يشرح للأميركيين بأنّ السلاح المتبقي مع «حزب الله» في لبنان لم يعد يحمل مقومات تهديد إسرائيل، فهو في معظمه بات من النوعين المتوسط والخفيف، وبالتالي فإنّ التمسك به هو لحاجة شيعية لها علاقة بالمتغيّرات المطروحة على المنطقة، وسط عداء عقائدي مع المجموعة السنّية التي باتت تحكم دمشق. لكن واشنطن تريد أن تفصل بين استمرار النفوذ الإيراني على لبنان وبين الشيعة ككيان مستقل عن طهران. وتدرك واشنطن أنّ هذا الترابط يرتكز على نقطتين: السلاح والمال. ولذلك تتمسك إدارة ترامب بموضوع نزع السلاح، وأيضاً بتجفيف الموارد المالية الخارجية، والتي يشكّل «القرض الحسن» أحد أبرز عناوينها. وكان قد تمّ تكليف الموفدة الأميركية مورغان أورتاغوس مهمّة ممارسة سياسة الضغط الأقصى على لبنان لتحقيق هذين الهدفين، على أن تقوم بزيارة لبنان كل شهرين. وبعيداً من سطحية البعض في مقاربة احتمال بقاء أو تغيير أورتاغوس، إلّا أنّ السياسة الأميركية تجاه لبنان لا ترسمها أورتاغوس، فهي تتولّى تطبيق هذه السياسة التي يرسمها خبراء مكلّفون يشكّلون المطبخ المعني برسم سياسة لبنان. ما يعني أنّ استمرارها أو تبديلها لا معنى جوهرياً له. وكذلك فإنّ الأجواء الأميركية الموثوقة تبدي ثقتها الكاملة برئيس الجمهورية العماد جوزاف عون وأيضاً برئيس الحكومة نواف سلام، وذلك خلافاً لما يشيّعه البعض في بيروت لأسباب شخصية وضّيقة. لكن المآخذ الأميركية هي على بطء عمل الحكومة وأداء بعض الوزراء. كما يتحدث هؤلاء بثقة عن الجيش اللبناني وعمله، وبأنّه يجب إيلاؤه دوراً أكبر مستقبلاً. وفي المناسبة، فإنّ معظم زوار واشنطن يلاحظون حال القلق المستمرة لدى موظفي إدارة ترامب الكبار حيال إمكانية تغييرهم. فالإقالات الفجائية هي سمة أسلوب حكم ترامب خلال ولايته الأولى، وهو لا يزال مستمراً في ولايته الثانية.


المنشورات ذات الصلة