خاص – "إيست نيوز"
بقلم الدكتور سليم الزيبق
قد يبدو من المستغرب ان يُطرح موضوع تعديل نظام الانتخابات البلدية غداة انتهاء الجولة الرابعة والأخيرة من هذه الانتخابات. الا انه من المؤكد ان عودة ظاهرة الاستقالات من المجالس البلدية، وذلك قبل ان يجف حبر محاضر انتخاب هذه المجالس، كما حصل في مجلس بلدية بطرّام - الكورة الأسبوع الماضي، تشكل دعوة ملحة لإعادة النظر بهكذا نظام.
ان آلية انتخاب المجالس البلدية، كما ينص عليها قانون البلديات (المرسوم الاشتراعي رقم 118 سنة 1977) تُعطي المرشح والناخب حرية تامة. فالمرشح يمكنه الانضواء في لائحة غير مكتملة او حتى الترشح بشكل فردي. اما الناخب فيمكنه الاقتراع للائحة مكتملة او غير مكتملة، كما يمكنه تعديلها بشطب اسم منها او إضافة اسم اليها. تجدر الإشارة أيضا الى ان الأصوات التي يحصل عليها المرشحون تحتسب بشكل فردي حتى لو تم الاقتراع للائحة مكتملة دون اي تعديل. فالمادة 19، معدلة، من المرسوم الاشتراعي السابق ذكره، تنص على انه " يفوز بالانتخاب المرشح الذي ينال العدد الأكبر من أصوات المقترعين...".
من الناحية الاكاديمية يعتبر اختصاصيو الأنظمة الانتخابية ان هذا النظام، المسمى " نظام الاقتراع التعددي الاكثري"، scrutin plurinominal، يؤدي، ككل نظام أكثري، الى محاباة الأحزاب الكبرى والى وصول أغلبية وازنة ومتجانسة الى المجالس المُنتخبة، ينبثق منها هيئة تنفيذية قادرة على تحقيق البرنامج الذي اُنتخبت على أساسه. وهذا ما حدث بالفعل في ظل القانون القديم لانتخاب مجلس النواب، المعروف بقانون ال" 60 "، الذي ساهم في تكوين كتلتين نيابيتين كبيرتين عابرتين للطوائف والمناطق: الحلف والنهج، واحدة تحكم والثانية تعارض، بحيث عاش لبنان، في ظل هذه الثنائية الحزبية، مرحلة من ابهى مراحل حياته الديموقراطية.
الا ان نفس النظام الانتخابي لم يُؤد الى نفس النتائج على صعيد المجالس البلدية وذلك لأن الانتخابات النيابية والبلدية ليس لهما نفس الابعاد والأهمية ولا نفس الرهانات والأنعكاسات.
بالإضافة الى ذلك فان قانون الانتخابات البلدية، خلافا لقانون ال 60، يتميّز بحياده التام بالنسبة للمجتمع اللبناني، اذ لا يأخذ بعين الاعتبار تركيبة المجتمع اللبناني وتعقيداته ولا العوامل التي تساهم في تكوين القناعات والخيارات الانتخابية للناخب، حيث تتداخل الميول السياسية بالانتماءات الطائفية والعصبية العائلية بالمصالح الشخصية.
أضف الى ذلك ان اللائحة المفتوحة تساهم الى حد كبير في انتخاب مجالس بلدية يليق بها التعبير اللبناني "من كل واد عصا"، حيث يعتريها الشلل عند اول خلاف او تباين في الرأي. ان هذه العوامل، اضافة الى الازمة المالية التي تعصف بلبنان منذ 2019، أدت في المرحلة الأخيرة الى شلل أكثر من ثلثي البلديات اللبنانية البالغ عددها 1064 بلدية. وفق الباحث في " الدولية للمعلومات"، الأستاذ محمد شمس الدين، بلغ عدد البلديات المُنحلة 125 بلدية وعدد البلديات المشلولة بسبب الخلافات والاستقالات بين اعضائها 640 بلدية.
عملا بالمبدأ القائل "ان نفس الأسباب تؤدي الى نفس النتائج"، يمكننا القول ان هذه الأرقام ستتكرر مع المجالس البلدية الجديدة، لا بل ستكون مرشحة للارتفاع بسبب التحالفات الهجينة، المناقضة لأبسط مبادئ العمل السياسي، بين أحزاب، يعيش اللبنانيون منذ عشرات العقود، على وقع صراعاتها العقائدية وحتى الدموية.
لتبرير هذه التحالفات السريعة الانفجار والتي لا تهدف الا الى المشاركة في " حفلات التباهي"، استنبطت الأحزاب واعلامها التعبير السحري: "انتخابات إنمائية". وكأنه من الممكن حذف الانماء من مفهوم السياسة!!! اليس الانماء هو فعل اجتماعي وكل ما هو اجتماعي يحمل طابعا سياسيا؟
ان العيب الثاني للقانون يكمن في عموميته وشموله، اذ انه يطبق على جميع البلديات بدون أي استثناء. فهل من المعقول ان تطبق نفس القواعد لانتخاب المجالس البلدية في المدن الكبرى كبيروت وطرابلس وفي القرى الريفية الصغيرة التي ليس لها لا نفس الإمكانيات ولا نفس المشاكل؟
انطلاقا مما تقدم سنحاول، ضمن أطار هذه العجالة، طرح بعض الحلول التي تهدف ليس فقط الى إزالة العيوب التي تعتري آلية انتخاب المجالس البلدية، وانما أيضا وخاصة الى الحفاظ على دور البلدية "...حيث تكمن قوة الشعوب الحرة"، حسب تعبير "Alexis de Tocqueville".
ضمن هذا الاطار، يمكن القول انه لا توجد أي عقبة دستورية تمنع المجلس النيابي من وضع نظام عام يطبق على جميع البلديات في لبنان مع وجود استثناءات مبنية على معايير موضوعية، لصالح المدن الكبرى. فالقانون الفرنسي، الذي نتمنى الاستلهام به من المُشَرِّع اللبناني، ينص على أنظمة خاصة ،statuts particuliers وضعت اما لأسباب سياسية وديموغرافية كالنظام المخصص لباريس، ومرسيليا وليون، واما لأسباب ثقافية وجغرافية كالنظام المخصص لجزيرة كورسيكا.
اما بالنسبة للبلديات الخاضعة للنظام العام،droit commun فان القانون الفرنسي يُميّز ايضا، بالنسبة لآلية انتخاب المجالس البلدية، بين البلديات التي يسكن ضمن نطاقها اقل من الف نسمة والبلديات الأخرى. تخضع الفئة الأولى لنفس النظام المعمول به حاليا في لبنان، مع فارق بسيط هو ان العملية الانتخابية تتم على جولتين. في الجولة الأولى يجب ان يحصل الفائز على الأغلبية المطلقة لعدد الناخبين ومن لم يحصل على هذه الأغلبية يجب ان يشترك في الجولة الثانية حيث يُعلن انتخاب المرشحين الذين حصلوا على اكبر عدد من الأصوات.
اما البلديات التي يسكن ضمن نطاقها أكثر من ألف نسمة، فأنها تخضع لنظام اقتراع مختلط على جولتين، يهدف الى الجمع بين مزايا كل من النظام الاكثري والنظام النسبي. فكما هو معلوم، ان النظام الاكثري يضحي بالعدالة الانتخابية لصالح فعالية الهيئة التنفيذية بينما النظام النسبي يضحي بهذه الفعالية لصالح العدالة الانتخابية. وفق هذا النظام يجب ان يتم الاقتراع للوائح مُكتملة ومُغلقة لا يمكن تعديلها باي شكل من الاشكال. في الجولة الأولى تحصل اللائحة التي تنال الأغلبية المطلقة من الناخبين على نصف مقاعد المجلس البلدي. اما النصف الثاني فيتم توزيعه على أساس التمثيل النسبي بين اللوائح التي نالت على الاقل 5% من الناخبين، بما في ذلك اللائحة التي حصلت على الأغلبية المطلقة. لنعطي مثلا على ذلك: اربع لوائح، A وB و CوD تتصارع على مجلس بلدي يتالف من 20 عضوا. نالت اللائحة A- -الأغلبية المطلقة أي 50% او اكثر من أصوات المقترعين، ونالت اللائحة-B- 30% واللائحة -C- 18 % . اما اللائحة- D- فلم تنل الا على 2 % من أصوات المقترعين. في هذه الحالة تخرج اللائحة D من السباق بينما تحصل اللائحة A- - على نصف أعضاء المجلس البلدي أي 10 مقاعد. اما النصف الثاني فيوزع نسبيا بين اللوائح الباقية، بما في ذلك اللائحة التي حصلت على الأغلبية المطلقة، لتحصل اللائحة A على 5 مقاعد واللائحة B على 3 مقاعد واللائحة Cعلى مقعدين، بحيث تكون النتيجة النهائية على الوجه التالي: 15 ( 10 +5 ) مقعدا للائحة A و3 مقاعد للائحة B ومقعدين للائحة C وصفر مقاعد للائحة D، مما يؤدي الى وجود اغلبية تقرر واقلية تعارض، دون شرذمة المجلس البلدي وذلك بأقصاء اللوائح التي تحصل على اقل من 5% من أصوات المقترعين.
في حال لم تحصل أي لائحة على الأغلبية المطلقة في الجولة الأولى، يتم الاقتراع في جولة ثانية، لا يحق الاشتراك فيها الا للوائح التي حصلت على الاقل 10% من اصوات المقترعين في الجولة الأولى. بين الجولتين يمكن للوائح التي حصلت على ما لا يقل عن 5% من أصوات المقترعين في الجولة الأولى ان تندمج فيما بينها، او التفاوض بشأن ادراج بعض مرشحيها في لوائح أخرى. بالنسبة لتوزيع المقاعد بين اللوائح، تُعتمد نفس القواعد الآنفة الذكر، مع فارق بسيط هو ان اللائحة التي تحصل على نصف المقاعد يجب ان تنال العدد الأكبر من الأصوات وليس الأغلبية المطلقة.
ان هذا النظام ينعم بحسنات عديدة، حتى ان العديد من رجال السياسة في فرنسا اقترحوا استلهامه في حال تعديل قانون انتخاب أعضاء الجمعية العمومية. فهو يجبر اللوائح على وضع برامج انتخابية مما يساهم في تحويل العملية الانتخابية من منافسة عائلية وشخصية لتحديد الاحجام ومناطق النفوذ، الى مفاضلة بين برنامجين اواكثر، مما يعيد الى العملية الانتخابية مضمونها الديموقراطي والحضاري. بالاضافة الى ذلك فانه يُسهّل عملية الفرز ويسمح بالتالي بتلافي ما حدث في طرابلس مؤخرا، كما يحد من نتائج التحالفات الهجينة بتأمينه للائحة الكبرى اغلبية مريحة في المجلس البلدي يسمح لها بانتخاب الرئيس والتصويت على المشاريع التي على أساسها نالت ثقة المواطنين. كذلك يؤمن حضور الأقلية في المجلس البلدي مما يعزز الشفافية والمساءلة.
قد يقول قائل ان اعتماد اللائحة المُقفلة يعتبر خطوة الى الوراء لأنه يحد من حرية الناخب. بدون أدنى شك لا يوجد نظام انتخاب بدون حسنات وسيئات. انطلاقا من هذه الحقيقة يجب ان لا ننسى ان العملية الانتخابية ليست هدفا بحد ذاته وانما وسيلة ديموقراطية تهدف الى ايصال اغلبية متجانسة الى المجلس المُنتخب، (أمجلس نيابي كان ام مجلس بلدي )، ينبثق منها سلطة تنفيذية قادرة على تطبيق برنامجها، وهذا ما تساهم بتحقيقه اللائحة المُقفلة .
اما بالنسبة للمدن الكبرى وخاصة بيروت، التي كانت مؤخرا موضوع نقاش عنيف تشابكت فيه صلاحيات المحافظ بالمناصفة بين المسيحيين والمسلمين والمناصفة بالطائفية والمصالح السياسية. فهناك من حاول مقايضة المناصفة بصلاحيات المحافظ، وهناك من طالب بالتصويت على قانون يفرض المناصفة لكي تبقى بيروت العاصمة مدينة التعايش والوئام بين جميع مكونات الشعب اللبناني.
بالنسبة لنا لا نعتقد بان الحل يكمن في أحد الاقتراحين. ان الحل المناسب هو في تقسيم العاصمة الى دائرتين انتخابيتين او الى أربع دوائر بحيث تنتخب كل دائرة ممثليها في المجلس البلدي كما هو معمول به في العاصمة الفرنسية المقسمة الى عشرين دائرة انتخابية. ان ترك المناصفة بيد الأحزاب السياسية لتصبح، عند كل استحقاق انتخابي، موضوع مساومة ومقايضة يُظهر هذه المناصفة وكأنها منّة من طائفة الى أخرى؛ كما ان فرض المناصفة بقانون يُعطي الانطباع وكأن المسيحيين أصبحوا جنسا نادرا، كبعض أصناف الطيور، يحتاج الى حماية خاصة.
لقد عارض البعض هذا الحل بحجة رفض " تقسيم" بيروت. ان هذه الحجة لا تستقيم لان القضية ليست قضية تقسيم أو رسم حدود وانشاء حواجز ترابية، وانما وبكل بساطة مسالة إدارية بامتياز ترمي الى انشاء دوائر انتخابية لا اعتبار لها الا مرة واحدة كل ستة سنوات. ثم هل يمكن القبول بتقسيم بيروت الى دائرتين لانتخاب أعضاء المجلس النيابي ونرفض ذلك عندما يتعلق الامر بالانتخابات البلدية؟.
ثم لنُسلم جدلا بان ذلك يؤدي الى تقسيم بيروت ويوقظ ذكريات الحرب البغيضة، هل بقي شيء في لبنان، مع الأسف الشديد، بدون قسمة او تقسيم؟.
أستاذ جامعي متقاعد جامعة ستراسبورغ – فرنسا