بقلم عصام شلهوب
آراء – حرة – "إيست نيوز" -
وسط التصعيد السياسي والأمني المتكرّر على ارض الجنوب وحدوده وفي ظل الاعتداءات التي يقوم بها "جنوبيون" يلتحفون في اتجاه دوريات القوات الدولية المعززة "اليونيفيل"، تبقى هذه القوات حاضرة في يوميات الجنوب والجنوبيين دون منازع وبكل المقاييس. فإلى حضورها بثقلها العسكري والديبلوماسي والأمني هناك وجوه أخرى إقتصادية واجتماعية وانمائية وثقافية وصحية ما زالت غائبة عن بال الكثير من المنظرين حول اوضاعه وهموم ابنائه. وكل ذلك يجري بعيدا عما يسمى بالنقاش العلمي المفيد عن أسباب الدورة الاقتصادية المميزة في منطقة واسعة، وهي التي كانت سببا مباشرا في بقاء آلاف المواطنين منهم في ارضهم وقراهم. ومع تغييب هذه الوجوه من حياة الجنوبيين اليومية يتجاهل البعض – إما عن جهل وإما عن غباء لا قياس له - دور هذه القوات في حياة السكان اليومية، وبخاصة ما تضخه في شرايين الاقتصاد الجنوبي الذي يعاني من غياب الدولة القادرة بعدما حضرت "الدويلات" والمعسكرات لفترات طويلة بدلا منها.
وعليه طرحت الاسئلة عما تنفقه "اليونيفيل" في مناطق تواجدها وانتشارها، وعمن هو المستفيد الأول غير الجنوبي مما قاد إليه وجودها من منافع وخدمات مختلفة لا تحصى ولا تقدر بثمن في موازين الحراك الذي تقوده حركات شعبية تتخذ معظمها اشكالا غوغائية، وحملات تجريح وصلت بالامس بأحد "المعترضين" إلى توجيه صفعة على خد عسكري اممي ترك بلاده منذ سنوات ليقوم بتنفيذ "مهمة سلام" اوكلت الى هذه القوات في جنوب لبنان.
وان توقف المراقبون أمام ما خلفه وجود "اليونيفيل" في جنوب لبنان منذ سنوات على انتشار الآلاف منهم لا يمكنه تجاهل الملاحظات والمؤشرات التالية:
ميزانية ضخمة.. معظمها يُصرف محليًا
تُقدّر الميزانية السنوية لقوات “اليونيفيل” بحوالى 450 مليون دولار أميركي، تغطي التكاليف التشغيلية، اللوجستية، الإدارية، والرواتب. وهذه الأرقام الصادرة عن الأمم المتحدة لا تمر مرور الكرام على بلد كلبنان، حيث يرزح الاقتصاد تحت وطأة الانهيار، وتُعاني المناطق الجنوبية من تهميش تاريخي على مستوى التنمية والبنى التحتية.
القوات التي يزيد عديدها على 10 آلاف جندي وموظف مدني من نحو 40 دولة حاليا بعدما كانت تجمع قبل سنوات قليلة ضباطا وجنودا من 48 دولة، لا تقتصر مهامها على مراقبة وقف إطلاق النار وتطبيق مندرجات القرار 1701، بل تحوّلت بفعل حجمها إلى لاعب اقتصادي مباشر، ورافعة دعم غير مرئية نسبيًا، لكنها فعّالة، في القرى والمدن الجنوبية.
الرواتب والعمالة المحلية: فرص في زمن الجفاف
تُشغّل اليونيفيل أكثر من 1000 موظف لبناني في قطاعات متنوّعة تشمل: الترجمة، اللوجستيات، السائقين، العمال التقنيين، والحراسات، إضافة إلى متعاقدين عبر شركات لبنانية. تُعدّ هذه الوظائف من بين القلائل التي توفر دخلاً ثابتًا بالدولار الأميركي في الجنوب، حيث يندر هذا النوع من الأمان الوظيفي والمالي.
وتُشير تقديرات غير رسمية إلى أن هذه الرواتب تضخّ ما بين 10 و25 مليون دولار سنويًا في الاقتصاد المحلي، يستفيد منها مئات العائلات التي باتت تعتمد على هذا المصدر كمورد أساسي في حياتها.
مشتريات واستهلاك: الأسواق تستنشق بعض الحياة
القوات الدولية تستهلك كميات كبيرة من الأغذية، الوقود، مواد الصيانة، والأدوية. ويتم تأمين جزء كبير من هذه المواد من السوق اللبنانية، خصوصًا من موردين جنوبيين. فشركات غذائية ومطاعم ومزارع وأفران وحتى مغاسل سيارات تعمل بعقود مباشرة أو غير مباشرة مع اليونيفيل.
ووفق تقديرات اقتصادية متقاطعة، تُنفق اليونيفيل ما بين 30 إلى 50 مليون دولار سنويًا على السلع والخدمات المحلية، وهي أرقام تسهم في إبقاء عجلة بعض القطاعات الاقتصادية الجنوبية تدور في الحد الأدنى.
عقارات وإيجارات: بدل غياب الاستثمار
لليونيفيل عشرات المواقع والقواعد التي تستأجرها من أهالٍ جنوبيين، سواء كمقرات عسكرية، أو كمساكن للجنود والموظفين، أو كمخازن ومواقف. هذا الإنفاق العقاري السنوي يُقدّر بين 5 و15 مليون دولار، ويتوزّع على نطاق واسع، مما يوفّر موردًا ثابتًا في منطقة يندر فيها الطلب العقاري والاستثماري.
مشاريع إنمائية: إصلاحات صغيرة بحضور دولي
ضمن ما يُعرف بـ”المشاريع السريعة التأثير” (Quick Impact Projects)، تقوم اليونيفيل بتنفيذ مئات المشاريع التنموية الصغرى، بالتنسيق مع البلديات والجمعيات، وتشمل:
- تأهيل طرق ومدارس وبلديات ومراكز ثقافية واجتماعية ودعم اندية وانشطة رياضية .
- صيانة شبكات مياه وكهرباء وتامين مولدات كهربائية للعديد من القوى في غياب كهرباء لبنان.
- تجهيز مستوصفات تقدم الادوية للمرضى بما فيها الادوية المزمنة. كما تقدم خدمات للمزارع والمزارعين
- حملات توعية صحية وتعليمية وتثقيفية ومنها دورات لتعليم اللغات الأجنبية والثقافات .
وتُقدّر قيمة هذه المشاريع بنحو 2 إلى 4 ملايين دولار سنويًا، وهو ما يُعدّ “مكمّلًا محدودًا” للغياب الفادح للدولة اللبنانية عن الإنماء المتوازن.
الجنود في السوق: زبائن للسلع والخدمات
لا يقتصر تأثير اليونيفيل على العقود الرسمية. فالجنود الدوليون يتسوقون ويأكلون ويستخدمون خدمات محلّية، خصوصًا في صور، الناقورة، وبنت جبيل. هذا الاستهلاك الفردي، وإن لم يكن ضخمًا كمًّا، يشكّل عنصر تحفيز لحركة تجارية في قطاعات مثل المقاهي، المطاعم، الاتصالات، وتجار التجزئة.
فجوة بين المنفعة والقبول الشعبي
رغم هذا الأثر المالي والاجتماعي، تشهد "اليونيفيل" رفضًا متصاعدًا من بعض الأهالي والجهات السياسية، وخصوصًا بعد صدور القرار 2650 عن مجلس الأمن عام 2022، الذي سمح للقوات الدولية بتسيير دوريات دون تنسيق مسبق مع الجيش اللبناني ومواكبته. اعتُبر القرار تجاوزًا للسيادة، ما أثار ردات فعل عنيفة من جهات تعتبر أن هذه القوات “تتجسس” أو “تخدم أجندات خارجية”.
وفي مشهد متكرّر، تُقابل الدوريات بالاعتراض، وتُقطع الطرق أمامها، وتُلاحق بالكاميرات والتشكيك، على الرغم من كونها أكبر مشغّل أجنبي في الجنوب، وأحد مصادر الدعم القليلة المتبقية.
خاتمة: معادلة لا يريد أحد حسمها
الرفض السياسي والشعبي لـ "اليونيفيل" قد يكون مفهومًا في سياق التوترات الإقليمية والمخاوف من التدويل. لكن في ظل غياب أي بديل اقتصادي أو إنمائي حقيقي، لا يبدو منطقيًا أن يُوجَّه العداء لقوة تضخ مئات ملايين الدولارات سنويًا في اقتصاد متهالك.
فهل المطلوب خروج "اليونيفيل"؟ ولمصلحة من؟ أم فقط تصفيتها سياسيًا ولصالح من ايضا؟ وهل بإمكان الدولة اللبنانية والبلديات، أو حتى القوى الحزبية السياسية، تعويض هذه الخدمات والمنافع في حال انسحابها؟ وهل يتمكن احد من تقديم صورة عن جنوب بلا "اليونيفيل" وما تمثله من رعاية ورقابة دولية ترهق كاهل العدو لمجرد تدوين وتعميم خروقاته ومخالفاته والتشهير به؟
أسئلة تبقى بلا إجابة، لمن لا يريد ان يرى ويسمع، سواء عن جهل الجاهل المطلق لكل هذه الحقائق، او عن غباء مطلق، او عن قصد لا نقاش فيه إن ثبت أنه تنفيذا لأجندات خارجية لا مكان فيها لمصلحة لبنان واللبنانيين والجنوبيين منهم بنوع خاص. وهل هناك من يريد ان يعود الجنوب كما كان بلا بيئة تقود الى الإنماء والتعافي منذ عقود؟