كتب عبد المنعم علب عيسى:
صبيحة الأحد 21 حزيران الجاري، كانت دمشق على موعد مع حدث لم يسجله تاريخها منذ أحداث العام 1860، التي بدأت بين الموارنة والدروز في جبل لبنان، ثم امتدت إلى دمشق التي شهدت مجازر ضد المسيحيين، تخللها حرق لقراهم وكنائسهم، الأمر الذي استدعى تدخلا دوليا برأس حربة فرنسي في حينها.
ففي الساعة 6 و 31 دقيقة من ذلك الصباح، وفقا لتوثيق إحدى الكاميرات القريبة، دخل مسلحان، وفقا لرواية ناجين، كنيسة مار الياس في منطقة «الدويلعة» بدمشق، أحدهما يحمل سلاحا فرديا والآخر يرتدي حزاما ناسفا، وعلى الفور عاجل المسلحان المصلين بإطلاق الرصاص، قبيل أن يفجر الآخر نفسه. وفي آخر تحديث أعلن بيان لوزراة الصحة السورية عن «ارتقاء 22 مدنيا وإصابة 59 آخرين، في حصيلة جديدة جراء الهجوم الإرهابي الذي استهدف كنيسة مار الياس بمنطقة الدويلعة بدمشق».
الكنيسة المستهدفة هي كنيسة «أرثوذكسية» تعود مرجعيتها للكنيسة الشرقية، التي تشكلت بعد انشقاق 1054، والذي أدى إلى انقسام المسيحية في أوروبا إلى « شرق بيزنطي أرثوذكسي» مقره القسطنطينية، و«غرب لاتيني كاثوليكي» مقره روما، حيث سينتشر الأول بشكل أساسي في روسيا وبلاد البلقان ودول أوربا الشرقية واليونان وعموم الشرق الأوسط.
ولعل الفعل كان «مدروسا» لاعتبارات معينة، وإن كان من الصعب الجزم بذلك ما لم تظهر استهدافات أخرى تصب في هذا الإتجاه. لكن ثمة مؤشرات تعزز من ذلك الإعتقاد، من نوع ما كتبه مجهولون، مهددين بعبارات «جاييكم الدور»، على جدران كنيسة «مار إيليا» في كفربهم بريف حماة الغربي، وهي للروم الأرثوذكس أيضا.
أصدرت وزارة الداخلية السورية بعد ساعات من الهجوم على الكنيسة، بيانا جاء فيه» أقدم انتحاري يتبع لتنظيم «داعش» الإرهابي على الدخول إلى كنيسة القديس مار الياس في حي الدويلعة بدمشق، حيث أطلق النار، ثم فجر نفسه بواسطة سترة ناسفة». وقد لقي البيان على مواقع التواصل الإجتماعي الكثير من الإنتقادات، سواء أكان لجهة العبارات المستخدمة فيه، أم لخلوه من أية وعود بمحاسبة من يقف وراءه.
وقد ذكر الصحافي شعبان عبود، المحرر في تلفزيون سوريا الرسمي، في منشور له على صفحته «إن من يقف وراء تفجير كنيسة مار الياس أراد إرسال رسائل عدة: الأولى هي للقول بأن المهاجمين قريبون فكريا وعقائديا من الإدارة السورية الجديدة، والثانية إلى الولايات المتحدة والغرب عموما، لكبح جماح اندفاعهم واحتضانهم للإدارة السورية الجديدة، من خلال خلق شكوك بقدراتها على ضبط الأمن وحماية الأقليات، والثالثة إلى الأقليات وفحواها أن «الخطر السني» ما زال قائما ويهدد مصيرهم».
قد يكون في ما سبق الكثير مما يستدعي التوقف عنده، ولربما حصل الفعل بدعم وإسناد استخباراتي خارجي، وأن الفاعلين لم يكونوا أكثر من «أدوات تنفيذية»، وفقا لما أراد عبود قوله وإن لم يكن بشكل مباشر، لكن هؤلاء الآخرين، الفاعلين، لم يسقطوا علينا من كوكب آخر، بل إن المناخات السائدة كانت» تبشر» بقرب « صدارتهم» للمشهد. فـ «الهستيريا» الطائفية كانت تملأ الشوراع منذ أشهر، والآلاف من المقاطع المصورة كانت ملأى بشتى أنواع الشتائم التي تنهال على بعض الطوائف. وعلى الحواجز كان السؤال الأهم الذي يعترض «عابريها» هو: ما هي طائفتك ؟ أما طلاب الجامعة، من الدروز والعلويين، فقد امتلأ «المربع الأزرق» بمقاطع ترصد رحيلهم إلى قراهم أو بلداتهم أو مدنهم. وكل ذلك كان يحدث على مرأى ومسمع من الجميع، بل وعلى مرأى ومسمع من أصحاب القرار، الذين لم يحركوا ساكنا.
والشاهد هو أن التحذيرات، التي كان يطلقها العشرات من الكتاب والناشطين، حول خطر «داعش الذي اقترب من أن يطل برأسه»، بل إن «المرصد السوري لحقوق الإنسان» كان قد ذكر في تقرير له نشره قبل نحو شهرين أن « ثمة نشاطا مريبا لداعش جنوب دمشق»، كلها لم تستحق المتابعة ولا الإهتمام من مؤسسات الدولة، حتى ولو كان بـ « أضعف الإيمان» عبر «استنفار» حاضنتها الإجتماعية وتوجيهها للتخفيف من حدة «الخطاب» المستخدم على المنابر وفي المجالس، وعلى كل المستويات والأصعدة.
في تصريح له لموقع «صوت سوري» قال الأب ملاطيوس شطاحي «هذه التصرفات الفردية أصبحت تصرفات مؤسساتية، ونحن لا نطلب الحماية من أحد، بل نحن مواطنون ومسؤولية الدولة هي حمايتنا». هذا الخطاب الذي شكل حالة وطنية وموضوعية صارخة، كان قد لاقى التأييد من شرائح واسعة من السوريين، أفرادا وتيارات وأحزاب.
فقد أصدر « تجمع سوريا الديمقراطي» بيانا جاء فيه «إن تزايد نشاط داعش بعد سقوط نظام الأسد لم يكن وليد الصدفة، بل هو نتيجة مباشرة لجملة من العوامل أبرزها: تساهل السلطة مع خطاب الكراهية والطائفية، وتفشي السلاح بشكل عشوائي، وسوء الوضع الإقتصادي للسوريين، وتعطيل عجلة الإقتصاد الوطني، وعمليات التسريح.
وعلى شاكلته قالت حركة «سوريون»، التي تضم شرائح وازنة من السوريين من شتى الإنتماءات، في بيان» إن هذا العمل الإجرامي لا يستهدف كنيسة بعينها، بل يستهدف قيم التعايش والمحبة والسلام التي تمثلها كل الديانات السماوية».
ما لا يجب أن يغيب عن رصد هكذا « حدث»، والتداعيات التي يمكن أن يخلفها على تركيبة مجتمعية باتت شديدة الهشاشة، هو الخطاب الذي قدمه الإعلام القريب من السلطة. ففي حلقة على «الإخبارية» السورية، جرى بثها بعد ساعات لتسليط الضوء على الجريمة، حاول نوار نجمة، المتحدث باسم «اللجنة العليا للإنتخابات»، المنوط بها التحضير لانتخابات «مجلس الشعب» المقبلة، خطابا هو أقرب للترويج لفكرة أن «حلف الأقليات» هو المستفيد من « الهجوم الإنتحاري على كنيسة مار الياس»، وهذا الخطاب، عدا كونه يشكل خطرا على السلم الأهلي، فإنه يضع مسألة «الثقة» التي يجب أن تحظى بها «لجنته» على المحك.