عاجل:

ماري روز أميدي مدرسة الغيرية الصامتة ( آراء حرة)

  • ٤٧

 بقلم المحامي جان بيار خليفة 

شخصية استثنائية، عرفها المعلم سعيد عقل، فاتخذها له رفيقة عمر و "أمّا ثانية"!

ونحن، إذ عرفناها، نروم إلى رفع سراج فضائلها للأجيال القادمة، فتقتدي بها.

ها هو الزمان أمامنا مختصَراً، فلنقرأ بفرح أكبر!

ننتظرها أقلام العباقرة لتكتب عجباً في السيدة اللبنانية الأرمنية ماري روز أميدي، تلك المريم التي أحبت كثيراً وستُحَبُ كثيراً، تلك الجنديّة المجهولة في خدمة لبنان الجريح، ذاك الصوت المدوّي دون ضجيج، تلك الحورة الفي ظلها استلقت بعلبك، تلك "الأرجوحة الثانية" لعظيم عظماء لبنان، سعيد عقل!

من جدتها لأبيها السيدة "مينا كجك قسطا" المشهود لها بصلابتها ومبادئها وما كانت عليه من هيبة ووقار في مجتمعها حتى من الذين يكبرونها سنّاً، فيقبّلون يدها احتراماً لاستقامتها في حياتها اليومية ودعمها، أيام الحرب، للمقاومين الشباب الأبطال بوجه السلطات التركية زمانئذٍ.. من تلك الجدّة التي تربّت وربّت أجيالاً على الكِبَر، تعلّمت ماري روز وغبّت الكثير الكثير، وعنها أخذت أن الابتسامة، لا القهقهات، هي ميزة "بنات العيل"، فبقيت الابتسامة علامة فارقة على وجهها الملائكي!

من والدتها السيدة "جوليات" الحائزة، بشهادة سعيد عقل، ثمانين دكتوراه في الفهم تعلّمت أن تُبقي فمها نظيفاً، سمعها نظيفاً، نظرها نظيفاً، وشمُّها نظيفاً. فكأني بحواسها أمام، سبحانه عرش الله، تحترس احتراساً دخول ما يمسُّ أو يخدش حياء قدسيته!

من والدها أنطوان الذي عاش ألم التهجير والإبادة الأرمنية، تعلّمت، هي وأخوتها جميعاً، حب الوطن وخدمته والإستماتة من أجله، لكيما لا يذوقوا الكأس نفسها مرتين. فأخذت منه، على وقع طبول الحرب، عدم الوقوف حياداً أو الاختباء من أظافر الحرب وأنيابها، بل الاندفاع والدفاع بكل ما أعطاها الله من قوة وقدرة، قدرة تتحدى بها الأقدار!

وكان أن تجنّدت طوعاً، لأكثر من سنتين دون انقطاع أو توقف أو تأفف، في مستشفى أوتيل ديو، تستقبل المقاتلين، تخدمهم وتبلسم جراحهم تارة بالدواء وطوراً بابتسامتها الحنون ويديها الطاهرتين! 

بعد تلك المرحلة، غداة استقرار الوضع آنذاك، قرّرت ماري روز الارتقاء بمسيرتها في خدمة لبنان، بجهود أكثر وأكثف، وبمُدّة لا تقلّ عن العمر الذي سيمدّها به الله!

وإذ بها تسمع معلم لبنان يصدح من على شاشة التلفاز، بأن "كل مقاتل لبناني يمسح بندقيته في تراب لبنان، يكون كأن مسحها على وجه الله!" فتقصده على الفور، بلباسها وقلبها الأبيض، وتقدم نذورها لديه، ليمسحها أمًّا ليتامى ثلاث، كان هو الأب الفاضل لهم مدة ثلاثين عاما: الله، العقل، ولبنان!

وهكذا بلّش المشوار سويا، تقصده مياومةً، تشرف على أعمال السكرتيرتين الكانتا تعملان لديه، تدفّق عصارة نباهتها وانتباهها في جريدة لبنان، سطراً سطراً، كلمةً كلمةً، وحتى فراغا فراغاً، تعطي ما لديها من حبات رمل وتضعها على طاولة المعلم لتزهر فرحا ومجدا للبنان الغد. هذا العمل الرسولي الجلل التي واظبت عليه ماري روز أميدي ردحاً من زمنٍ، كان يرافقها في عملها في مدرسة Lycée de la Mission Laïque Française حيث كانت تعلّم الأُخّاذ مادة الرياضيات، وفي تعليمها تطرح من عقولهم السلبيات، وتجمع القيم في نفوسهم، وتجذّر في دواخلهم العنفوان اللبناني!

وكان لها ما كان من مسيرة على درب المعلّم وفي دروبه، في تحضيراته ومحاضراته، في فتح قلبها وبيتها على مصراعيه، أربعاءات ذاك الزمن الجميل، لاستقبال العشرات من مريدي المعلم ومحبيه يتناولون منه ومعه غذاء العقل والجسد! 

إلى جانبه بقيت، تعتني وتغتني دون أن تقتني، تحتفظ بقصاصات الجرايد والمجلات التي يقع عليها تصحيح المعلم وتنقيحاته في الاقتصاد والسياسة والتاريخ والجغرافيا واللاهوت. كيف لا؟! وهي العارفة بأن حزًّ قلم المعلم على الورق سينحفر إبداً في صخور لبنان وصدوره!

نعم، ماري روز أميدي، هي المريم الأخرى التي قالت نعم، مع وعيها ما سيرافق هذي "النعم" من سهر وجهد وتضحيات، من وقتها ومالها وغزارة علمها وثقافتها. حفظت كل شيء في قلبها الذي اجتازه سيوفٌ كثيرة، كان المعلم قد تنبه ونبهها منها مراراً، حافظت على إرث المعلم، حفظته من الضياع وحفظته عن ظهر قلب، (عينك تراها تتجلى وهي تلقي من "الذهب قصائد" أو من "عشتريم" أو "القداس الإلهي" أو الخماسيات.!!!)

إكراماً وتكريماً لتلك "النّعم"، أنعم عليها المعلم بثلاثٍ، الأولى إهداؤه لها كتاب عشتريم تلك التي رأى كثيراً من صفاتها الملكية والملائكية تلتمع في شخص السيدة أميدي وشخصيتها، والثانية أن خصّها بقصائد وخماسيات لا أجمل منها ولا أنقى. كيف لا وماري روز عنده هي أمه الثانية وملاكه الأرضي وأرجوحة الكهولة. والثالثة أن أوصى وتنازل لها عن حقوقه المادية والمعنوية الناتجة عن إرثه الأدبي العريق، لتنقله بدورها إلى مستحقيه وترفعه إلى منارة الأجيال القادمة!

بلى، سعيد عقل الفَلّ وترك عطراً في هذا الكون، أراد أن تكون ماري روز أميدي وحدها تلك "الوردة الحمراء" لتحتوي عطره جميعاً، ومنها وبها ومعها يعبق هذا العطر من جديد، ويحتلّ المكان والزمان، وما بعد المكان، وما بعد الزمان!

ماري روز أميدي ليست بشخصية عابرة في الحياة، والأهم، في حياة المعلم سعيد عقل، بل حدث تاريخيّ ومفصليّ، وجزء لا ينجزئ من مسيرته العبقرية. وما كانت لتلك المسيرة أن تكتمل "ويتم كل شيء" إلا بقولها "النعم الأخيرة" حيث لبّت نداء المعلم من عليائه في ليلة عيد ميلاده لتشاركه فرحته ويكون فرحه عظيما في السماء!!

  شكرا لكِ ماري روز أميدي وللعطر الكثيف الذي تركتِه لنا، وإلى اللقاء!

المنشورات ذات الصلة