بقلم عصام شلهوب
آراء حرة – "ايست نيوز"
في دفاتر التاريخ العثماني، كان “الشليتي” موظفًا "رسميًا"، أوكلت إليه مهمة "سامية": مراقبة الأسواق، ضبط الأسعار، ومنع التجار من التلاعب بلقمة الناس. وظيفته كانت نبيلة نظريًا، لكنه سرعان ما أصبح جزءًا من منظومة الفساد. أغمض عينيه عن المخالفين وتقاضى الرشاوى، وتحوّل من حامٍ للمستهلك إلى حارس لمصالح التجار.
وحين أدركت الدولة العثمانية أن الشليتي قد “باع القضية”، عيّنت عليه موظفًا آخر: هو “السرسري”، ليكون "العين الساهرة" على من يُفترض أنه "الحارس". غير أن هذا الحارس الجديد لم يلبث أن دخل في اللعبة ذاتها. صار “أخو الشليتي”، وبات الاثنان "شريكين" في شبكة المصالح على حساب المواطن.
هذه القصة ليست مجرد حكاية من الماضي، بل صورة صارخة عمّا نعيشه اليوم. فـ”الشليتي” و”السرسري” لم يغادرا المشهد، بل لبسا بدلات حديثة، واحتلا مكاتب رسمية تحت عناوين مثل “مديرية حماية المستهلك”، المكلفة بـ "مراقبة الأسعار” و”ضبط المخالفين”. لكن، للأسف، كثيرًا ما يبقى المواطن وحيدًا، يواجه جشع التجار، وتقلبات الأسعار، وسط غياب فعلي للرقابة الجدية والفعالة.
في لبنان، مديرية حماية المستهلك التابعة لوزارة الاقتصاد، يُفترض أنها الجهة المسؤولة عن حماية الناس من فوضى الأسعار، وعن منع الاحتكار، ومراقبة الجودة، ومحاسبة التجار الذين يتلاعبون بلقمة عيش الناس. لكن الواقع يقول شيئًا آخر.
مع كل أزمة، يتسبب بها الدولار الجمركي ورفع الدعم، إلى تقلبات سعر الصرف، يجد اللبناني نفسه في مواجهة مباشرة مع الأسواق المفتوحة على كل أنواع الفوضى. الأسعار ترتفع من دون ضوابط، بعض التجار يتفننون في “التسعير المزاجي”، ولا يُرى من فرق حماية المستهلك سوى جولات محدودة، وبيانات إعلامية، ومحاضر ضبط لا نعلم إن كانت تُنفّذ فعليًا.
المشكلة ليست في الموظفين فقط، بل في النظام كله: نقص في عدد المفتشين، غياب للشفافية، ضغوط سياسية ومناطقية، وغياب الإرادة الجدية للإصلاح. وهكذا، يتحول الجهاز الذي يُفترض أن يكون خط الدفاع الأول، إلى شاهد زور في مسرحية تآكل القدرة الشرائية للمواطن.
هل نحتاج إلى مراقبة على “المراقبين”؟ ومن يحمي المواطن من “حماية المستهلك” أنفسهم حين يتقاعسون؟ يبدو أننا في حاجة إلى جهاز رقابي مستقل، شفاف، فاعل، لا يساوم، ولا يخضع.
في النهاية، يبقى السؤال مفتوحًا: هل ما نراه اليوم هو “أخو الشليتي” بنسخته المعاصرة؟
وكم من “سرسري” نحتاج حتى تعود العدالة إلى السوق، ويشعر المواطن أنه ليس وحيدًا في معركته مع الغلاء؟