خاص – "إيست نيوز"
في بلدٍ تتقاطع فيه الانهيارات المالية مع شبكة معقدة من المصالح السياسية والمصرفية، لا تزال المعالجات التشريعية للأزمة المصرفية في لبنان تدور في حلقة مفرغة. ورغم مرور أكثر من خمس سنوات على اندلاع الأزمة في 17 تشرين الأول 2019، لم تحاسب أي إدارة مصرفية، ولم تسترجَع أي من الأموال المنهوبة أو المهربة، فيما تستمر السلطات في تسويق مشاريع قوانين يُقال إنها "إصلاحية"، لكنها غالبًا ما تنطوي على تسويات تفتقر إلى الشفافية والمساءلة.
وسط هذا المشهد الرمادي، يُدرج المجلس النيابي مشروع قانون إصلاح وضع المصارف وإعادة تنظيمها ضمن مشروع المرسوم رقم 193، على جدول الأعمال في جلسة تشريعية مرتقبة خلال الأيام المقبلة، ويتوقع مراقبون أن يتمّ إقراره في ضوء توافق نيابي – حكومي على ضرورة إتمام الإصلاحات المالية والقضائية المرتبطة بالأزمة الاقتصادية المتفاقمة .
يطرح المشروع نفسه كخطوة حاسمة في تنظيم القطاع وإعادة الثقة إليه. لكن، كما يكشف رئيس لجنة الدفاع عن حقوق المودعين في نقابة المحامين في بيروت المحامي كريم ضاهر لـموقع "إيست نيوز" ، فإن "ما يعرض ليس سوى محاولة لتدوير الزوايا، تفتقر إلى الأسس البنيوية لإعادة هيكلة عادلة، وتُخفي في طيّاتها منح صكوك براءة استباقية للمسؤولين عن الانهيار، بدل فتح الباب للمحاسبة واسترداد الحقوق".
واضاف ضاهر: إن من أبرز التعديلات التي لحقت بمشروع القانون الحكومي هو تعديل جوهري في تشكيل الهيئة المصرفية العليا. فبعد جدل طويل داخل اللجان النيابية، تقرر إنشاء “غرفتين” داخل الهيئة بدلاً من واحد: وهما
* الغرفة الأولى تحتفظ بمهام الهيئة كما نصّ عليها القانون 28/67 وقانون النقد والتسليف.
* الغرفة الثانية تُعنى حصراً بإصلاح وتصفية المصارف.
وبحسب ضاهر، كان الاقتراح الأول يقضي بإنشاء هيئة جديدة ومستقلة كلياً تتولى عمليات الإصلاح والتصفية، إلا أن هذا الطرح سقط لاحقاً بسبب تضارب الصلاحيات مع الهيئة المصرفية العليا. كذلك، تمّ تعديل تشكيل الهيئة لتتضمن خمسة أعضاء، أربعة منهم من المجلس المركزي (نواب الحاكم والمدير العام في وزارة المالية) إضافة إلى قاضٍ متخصص وعضو يمثل مؤسسة ضمان الودائع.
لكن هذا التعديل لم يخلُ من اعتراضات شديدة، أبرزها من حاكم مصرف لبنان الذي رأى فيه "مسّا بصلاحياته واستقلالية المصرف المركزي". ويؤكد ضاهر أن هذا النزاع عكس جوهر المعضلة: صراع خفي على من يملك سلطة القرار في مسار التصفية.
صراعات المصالح داخل المشروع.
يشير ضاهر إلى أن الخلاف السياسي والتقني حول تشكيل الهيئة لم يكن تفصيلا شكليا، بل له تبعات مباشرة على مصير الودائع. فمشروع القانون الحكومي أتى لينظّم معالجة المصارف المتوقفة عن الدفع، وليس المصارف المفلسة. وهذا التفريق القانوني – وإن بدا دقيقا – يخفي خلفه محاولة لحماية المصارف من إعلان الإفلاس، وبالتالي تفادي أي ملاحقات قانونية ضد الإدارات المصرفية والجهات الرقابية المتواطئة.
ويُذكّر ضاهر بأن القانون 2/67 كان يعالج أوضاع المصارف المتوقفة عن الدفع، بينما القانون 110/91 جاء ليغطي حال إفلاسها. أما مشروع القانون الحالي، فلا يتضمن أي ربط واضح مع خطة التعافي ولا مع قانون توزيع الخسائر أو ما يُعرف بـ"الفجوة المالية".
صلاحيات جديدة دون أدوات محاسبة فعالة.
يُفترض أن تكون الغرفة الثانية داخل الهيئة المصرفية العليا، بحسب القانون الجديد، مختصة بملف الإصلاح والتصفية. إلا أن تشكيلها، كما يؤكد ضاهر، يعطي اليد الطولى لمصرف لبنان، من خلال تمثيله بأربعة أعضاء، ما يطرح شكوكاً جدية حول استقلالية قرارات التصفية.
وفي غياب قانون خاص لتوزيع الخسائر (Bail-in vs. Bail-out)، وغياب رؤية شاملة لخطة التعافي، فإن أي تصفية ستتم بلا أفق عادل، ما يفتح الباب أمام استمرار السياسات الانتقائية في التعاطي مع المصارف، وفقاً لحجم علاقاتها السياسية أو المالية.
لماذا تمّ تجاهل العمليات التي سبقت الانهيار؟
واحدة من أخطر الثغرات في المشروع، بحسب ضاهر، هي تجاهله الكامل للعمليات المشبوهة التي جرت بين إدارات المصارف والمقرّبين منها، خاصة بعد 17 تشرين الأول 2019. ويشرح ضاهر أن هناك مجموعة من “العمليات القابلة للإبطال” (Voidable Transactions) جرت في تلك الفترة، ساهمت في تبديد أصول المصارف.
من هذه العمليات:
* بيع أصول إلى أقارب وأطراف نافذة بأسعار رمزية.
* تسديد قروض بأقل من قيمتها الحقيقية.
* تحويل سندات مصرفية إلى حسابات أفراد مرتبطين بالمجالس الإدارية، بواسطة “أموال فريش”.
ويُحمّل ضاهر الطبقة السياسية والنيابية مسؤولية تجاهل هذا الملف، رغم محاولة بعض النواب الدفع باتجاه مساءلة هذه العمليات، لكنه قوبل برفض شبه كامل من الأكثرية النيابية.
غياب الربط مع الفجوة المالية ومصير الحقوق.
يعتبر ضاهر أن القانون الحالي يُقارب الملف من زاوية تقنية وإدارية، من دون أي ربط بخطة شاملة للتعافي. فلا حديث واضح عن توزيع الخسائر، ولا عن استعادة الأموال المهربة، ولا حتى عن ضمانات جدية لحماية صغار المودعين. وهذا ما يفرغ القانون من مضمونه الإصلاحي، ويحوله إلى مجرد "تجميل" للوضع القائم.
ويؤكد أن أي إصلاح لا يكون فعالا ما لم يُربط بقانون شفاف يحدد الفجوة المالية، ويوزع المسؤوليات، ويحمل الأطراف المعنية الأكلاف الفعلية.
المحاسبة المؤجلة إلى ما بعد الانتخابات؟
يختم ضاهر حديثه بتشكيكه في إمكان إقرار قانون الفجوة المالية قبل الانتخابات النيابية المقبلة، نظراً لخشية الطبقة السياسية من مواجهة الرأي العام بالحقيقة. فإقرار هذا القانون سيفرض الاعتراف بأن استعادة الحقوق – إذا ما حصلت – ستكون على مدى زمني طويل، وهو أمر لن يتجرأ أحد على تبنّيه قبيل الاستحقاق الانتخابي.
ويرى أن كبار المودعين، الذين يُشكّلون في معظمهم الداعمين الرئيسيين للسلطة السياسية والمالية، لن يقبلوا بالخسارة، ما يعقّد أي مسار للمحاسبة الجدية أو الحل المستدام. ذلك ان تحقيق “الإصلاح المصرفي” في لبنان لا يزال حتى اليوم رهن تجاذبات المصالح والنفوذ، وغياب الإرادة الحقيقية للمحاسبة. وبين قانون يُشرعن "التصفية دون محاسبة"، وخطة "تعافٍ مؤجلة"، يبقى المودع اللبناني الحلقة الأضعف في منظومة تهرب من العدالة… وتُعيد إنتاج الإفلات من العقاب.