عاجل:

ثمانون الجيش اللبناني: الدستور اللبناني والمؤسسة العسكرية

  • ٢٣٥

بقلم الدكتور سليم الزيبق
أستاذ جامعي متقاعد جامعة ستراسبورغ - فرنسا

بمناسبة عيد الجيش، عيد "الشرف والتضحية والوفاء"، لا بد من طرح السؤال، الذي لم يُطرح بعد، على حد علمنا، المتعلق بموقع الجيش اللبناني ودوره في النصوص الدستورية اللبنانية. ففي مختلف دول العالم، تحتوي الدساتير على احكام تتعلق بالجيش وبتنظيم الدفاع الوطني. تنقسم هذه الاحكام بشكل عام الى نوعين: منها ما يتعلق بالقيود المفروضة على السلطة السياسية في اعلان حالة الحرب واستعمال القوة ومنها ما يتعلق بتحديد صلاحيات السلطات العامة في مجال الدفاع الوطني.
  ضمن أطار النوع الأول من هذه الاحكام، يمكننا ان نشير الى ان المادة 14 من مقدمة دستور الجمهورية الرابعة في فرنسا (1946- 1958)، والتي تُعتبر جزأ لا يتجزأ من النصوص الدستورية المعمول بها في ظل الجمهورية الخامسة الحالية، تمنع شن أي حرب بدوافع الغزو او استعمال القوات المسلحة ضد حرية أي شعب:
" La République française…n’entreprendra aucune guerre dans des vues de conquête et n’emploiera jamais ses forces contre la liberté d’aucun peuple"
اما بالنسبة للنوع الثاني من الاحكام الدستورية، فهناك العديد من المواد الدستورية الفرنسية التي تحدد صلاحيات السلطات العامة في حالة اعلان الحرب واستعمال القوات المسلحة في الخارج (مادة 35)، او في حالة اعلان الظروف الاستثنائية (مادة 16) او في رسم الحدود بين صلاحيات كل من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة في مجال الدفاع الوطني (المادة 15 والمادة 21).
تذهب دساتير بعض الدول الى ابعد من ذلك لتحدد اهداف القوات المسلحة والمهام الملقاة على عاتق الجيش (انظر مقدمة الدستور الجزائري) وللتأكيد على ضرورة حياد الجيش وعدم تدخله في الحياة السياسية (انظر المادة 275 من الدستور البرتغالي).
   فهل يحتوي الدستور اللبناني على نصوص تؤمن ضبط العلاقة بين السلطة السياسية والقوات المسلحة؟ وما هي القواعد الدستورية التي تنظم مهام المؤسسة العسكرية وتؤمن الرقابة عليها من قبل السلطة التشريعية؟ وهل من نصوص دستورية تضمن حياد المؤسسة العسكرية وعدم تدخلها في الحياة السياسية الداخلية؟
ان المراجعة السريعة للتعديلات والنصوص الدستورية منذ ولادة الدستور اللبناني سنة 1926، تُظهر ان دستور ما قبل الطائف، أي قبل سنة 1990، لم يكن يحتوي على أي نص يتعلق بالمؤسسة العسكرية. يمكن تفسير ذلك بان الدستور اللبناني وضع سنة 1926 بينما لم يتأسس الجيش اللبناني الا في آب سنة 1945، أي بعد سنتين من التعديل الدستوري الناتج عن اعلان الاستقلال سنة 1943، وهذا ما يفسر ايضا عدم ذكر المؤسسة العسكرية في التعديل الدستوري لسنة 1943.
اما دستور الطائف فلم يأت على ذكر القوات المسلحة الا في ثلاث مواد فقط.
فالمادة 49 المتعلقة برئيس الجمهورية، تنص على ان " رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن. يسهر على احترام الدستور والمحافظة على استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه وفقا لأحكام الدستور. يرأس المجلس الأعلى للدفاع وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة التي تخضع لسلطة مجلس الوزراء". اما المادة 64 المتعلقة بصلاحيات رئيس مجلس الوزراء فتنص على ان هذا الأخير " يرأس مجلس الوزراء ويكون حُكما نائبا لرئيس المجلس الأعلى للدفاع". واخيرا فان المادة 65 المتعلقة بمجلس الوزراء تنص على ان " تناط السلطة الإجرائية بمجلس الوزراء. وهو السلطة التي تخضع لها القوات المسلحة". وفي معرض تعدادها للمواضيع الأساسية التي يتطلب إقرارها موافقة ثلثي عدد أعضاء الحكومة، تذكر نفس المادة 65 " اعلان حالة الطوارئ والغاءها، الحرب والسلم، (و) التعبئة العامة".
 يتضح من المواد الانفة الذكر ان الدستور يشير الى الجيش بشكل عرضي أي في معرض تحديده لصلاحيات السلطات السياسية وليس بشكل رئيسي يهدف الى ارساء الأسس الدستورية للمؤسسة العسكرية واعطائها كيانا دستوريا. كذلك تجدر الإشارة الى ان المشرع الدستوري استعمل تعابير مقتضبة لا تخلو من التناقض. فكما رأينا سابقا، ان المادة 49 من الدستور، في نصها الناتج عن اتفاق الطائف، صيغت بشكل لا يعرف سره الا مُشرعي دستور الطائف: فرئيس الجمهورية هو " القائد الأعلى للقوات المسلحة التي تخضع لمجلس الوزراء". فمن بديهيات الأمور ان" القائد " هو الذي يعطي الأوامر التي يجب ان تُنفذ تحت طائلة المسؤولية. اذ كيف لقائد ان يقود مؤسسة لا تخضع لسلطته؟ هذا اذا لم تكن المسالة مسالة منصب شرف كما كشفه المغفور له الوزير جورج سعادة (انظر خالد ملكي: الوثائق الدستورية اللبنانية منذ 1860 منشورات صادر، ص. 302).
ينبغي الإشارة أيضا الى السكوت التام للدستور عن أي دور للمجلس النيابي في الموافقة او المراقبة للمهمات المناطة بالمؤسسة العسكرية. هذا يعني ان المواضيع "الأساسية"، المتعلقة بموضوعنا، والتي تعددها المادة 65 من الدستور، الانفة الذكر، أي "اعلان حالة الطوارئ والغاؤها، الحرب والسلم، (و) التعبئة العامة" التي يقررها مجلس الوزراء بأغلبية ثلثي عدد أعضاء الحكومة، لا تخضع للموافقة المسبقة ولا حتى للمراقبة والتمديد، بعد مرور فترة من الزمن، من قبل مجلس النواب كما في بقية البلدان؟ (انظر المادتين 35 و 36 من الدستور الفرنسي، كذلك المادتين 91 و97 من الدستور الجزائري). بهذه الحالة يقتصر دور البرلمان فيما يتعلق بالجيش على مناقشة وإقرار ومراقبة ميزانية وزارة الدفاع التي تشكل جزأ لا يتجزأ من الميزانية العامة.
أخيرا، وللوهلة الأولى، قد يظن المراقب ان الدستور اللبناني لا يشير لا من قريب ولا من بعيد الى موضوع حياد الجيش وعدم إمكانية افراده من الترشح في الانتخابات، وذلك خلافا للعديد من دساتير العالم (انظر على سبيل المثال المادة 70 من الدستور الاسباني والماد ة 98 من الدستور الإيطالي). الا ان ذلك فيه الكثير من الاستخفاف بحذاقة المُشرع الدستوري اللبناني. ففي التعديل الدستوري الناتج عن اتفاق الطائف تمت إضافة فقرة جيدة على المادة 49 تنص:" لا يجوز انتخاب القضاة وموظفي الفئة الأولى وما يعادلها في جميع الإدارات العامة وسائر الأشخاص المعنويين في القانون العام، مدة قيامهم بوظائفهم وخلال السنتين اللتين تليان تاريخ استقالتهم وانقطاعهم فعليا عن وظيفتهم او تاريخ احالتهم على التقاعد". بدون ادنى شك لا يشير هذا النص بشكل صريح الى وضع قيود على وصول قائد الجيش الى سدة الرئاسة الا ان تعبير "موظفي الفئة الأولى وما يعادلها" يفي بالمطلوب. فكما اعترف بذلك صراحة الرئيس حسين الحسيني ان هذه الفقرة تهدف الى اقصاء قائد الجيش وحاكم البنك المركزي لكي لا يتمكنا، بحسب رايه، من توظيف مقدرات الدولة للوصول الى الرئاسة (انظر خالد ملكي: الوثائق الدستورية اللبنانية منذ 1860 منشورات صادر، ص. 303).
 يظهر مما تقدم ان المشرع الدستوري لا يهدف الى حماية الحياة السياسية الداخلية من تدخل المؤسسة العسكرية وانما الى منع استغلال الوظيفة للوصول الى الرئاسة.
فالجيش اللبناني الملقب " بالصامت الأكبر"، ليس بجيش انقلابات، بالرغم من بعض المغامرات الفاشلة. وتاريخه يشهد على حياده منذ سنة 1958 الى سنة 2025 مرورا بسنة 2008 و2019. تبقى حجة " عدم استغلال الوظيفة للوصول الى الرئاسة": أليس في هذه الحجة إهانة لمن لهم شرف انتخاب الرئيس؟
على أي حال، ان مبدأ القيود الدستورية على انتخاب قائد الجيش رئيسا للجمهورية يتباين مع وصول خمسة قادة للجيش الى سدة الرئاسة: القائد المؤسس للجيش وللدولة الحديثة اللواء فؤاد شهاب، والرؤساء اميل لحود، ميشال سليمان وميشال عون والرئيس الحالي العماد جوزاف عون. حتى ان بعضهم قال ان رئاسة الجمهورية أصبحت رتبة عسكرية.
يبقى السؤال، لماذا وصل هؤلاء العسكريون الى الحكم؟ اليس لملء فراغ في مكان ما؟

المنشورات ذات الصلة