عاجل:

"أما وقد انفجر قلب بيروت في 4 آب 2020".. ابو دياب : كيف لبلد أن ينهض على أنقاض الحقيقة والخسائر لا تزال تقاس يوما بيوم وجيلا بعد جيل؟ (خاص)

  • ٢٠٠

عصام شلهوب - خاص "إيست نيوز" 

مرّت خمسة أعوام على الكارثة التي هزّت بيروت… وما زالت العاصمة تنزف. في الرابع من آب 2020، انفجر قلب المدينة، لا فقط بالحجارة والحديد، بل بالبشر، وبالاقتصاد، وبما تبقى من أمل. لم يكن تفجير مرفأ بيروت مجرد فاجعة عمرانية، بل زلزالا اقتصاديا أطاح بمقدرات وقطاعات، وجر خلفه سلسلة من الانهيارات التي لم تنتهِ فصولها بعد.

في حديث خاص ضمن الذكرى الخامسة لتفجير المرفأ، قدم الدكتور أنيس أبو دياب، عضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي ، لـ "إيست نيوز " شهادة دقيقة وواقعية عما خلفه الانفجار من ندوب عميقة في الجسد الاقتصادي اللبناني، مؤكدا أن الخسائر لا تزال تقاس يوما بيوم، وجيلا بجيل.

"الخسائر المادية المباشرة بلغت نحو 3.8 مليار دولار"، يقول الدكتور أبو دياب، مضيفا "أن هذه الخسائر شملت البنى التحتية، والمؤسسات، والمباني السكنية والتجارية، خصوصا في مناطق الجميزة ومحيط المرفأ. أما الخسائر غير المباشرة، فهي أفدح، إذ تجاوزت 8 مليارات دولار، ناتجة عن تعطل مرفأ بيروت – شريان لبنان الاقتصادي – وعن توقف آلاف الوظائف، وتراجع الإيرادات الجمركية والضريبية."

واكد "ان مرفأ بيروت لم يكن مجرد بوابة بحرية، بل كان يؤمن نحو 70% من واردات لبنان، ومع تعطله انهارت سلاسل التوريد، وتعقدت آليات الاستيراد والتوزيع، وارتفعت تكاليف الشحن بنسبة 30%. واليوم، لا يزال المرفأ يعمل بقدرة لا تتجاوز 60%، في ظل دمار واسع طال منشآته ومعداته، وسط ظروف تفريغ بدائية تعكس مدى التراجع المؤسساتي في إدارة الشأن العام."

الانفجار لم يأتِ من فراغ. لقد انفجر في قلب أزمة مالية واقتصادية كانت تضرب لبنان منذ خريف 2019. وبدلا من أن يكون بارقة انتباه أو صدمة توقظ الضمير الرسمي، جاء ليدفن ما تبقى من بنى اقتصادية هشة. بحسب الدكتور أبو دياب، "أُقفلت آلاف الشركات، وخرجت أخرى من السوق، وتفاقم الطلب على الدولار نتيجة الذعر الاقتصادي، مما ساهم في تسريع انهيار العملة الوطنية. ومنذ 2019 حتى اليوم، انكمش الناتج المحلي بنسبة تجاوزت 40%، أي أن لبنان خسر نصف اقتصاده تقريبًا".

لم يكن القطاع السياحي بمنأى عن الضربة. "فالمناطق المتضررة شملت الفنادق والمطاعم والبنى التحتية السياحية في قلب العاصمة. العديد من الفنادق الأساسية لم تستعد نشاطها حتى اليوم، ما أفرغ بيروت من روحها، وأبقاها مدينة منكوبة بلا زوار، بلا حياة ليلية، بلا اقتصاد خدماتي كان لسنوات مصدرا حيويا للدخل الوطني"،على ما قاله ابو دياب .

"خسرنا رأس المال البشري"، يؤكد أبو دياب. "فالكثير من الشباب والعاملين في المؤسسات التي كانت قائمة في محيط المرفأ، غادروا البلاد، يائسين من إمكانية النهوض في ظل غياب العدالة والمحاسبة، في بلد لم يعرف حتى اليوم من استورد المواد المتفجرة، ومن تركها، ومن تجاهل تحذيرات أمنية كانت كفيلة بإنقاذ العاصمة."

من بين أبرز رموز الانفجار كانت صوامع القمح التي صمدت يومها بجزئها الغربي، لتكون لاحقا شاهدا صامتا على الجريمة. تلك الصوامع كانت تخزن ما يكفي حاجة البلاد من القمح لستة أشهر. اليوم، يقول الدكتور أبو دياب،" لا يمكن للبنان أن يخزن لأكثر من شهرين أو ثلاثة، مما يضع الأمن الغذائي في خانة الهشاشة المستمرة."

الانفجار كان كاشفًا لا فقط عن العجز الإداري، بل عن فقدان الثقة بالمؤسسات، وتحديدا بالقضاء. فبعد خمس سنوات، لم تظهر أي محاسبة جدية، ولم تكشف كل الملابسات. هذا التراخي ضرب البيئة الاستثمارية في الصميم. يؤكد أبو دياب "أن الاستثمار، المحلي والأجنبي، غائب تماما، بسبب غياب الحوكمة، وضعف الدولة، وتعثر الإصلاح المصرفي، الذي ما زال يعيق حتى اليوم سبل التمويل والنهوض".

أتى الانفجار في زمن كورونا، وأعقبه انهيار القطاع المصرفي، وأضيف إليه لاحقا زلزال إقليمي جديد تمثل بأحداث 7 تشرين الأول 2023 وتداعياتها على لبنان. هكذا تراكمت الأزمات على البلاد، في سلسلة متصلة لا نهاية واضحة لها.

خمسة أعوام مرّت، وبيروت لم تُضمد جراحها. الحطام ما زال قائمًا، وإن بأشكال جديدة. المرفأ، الاقتصاد، القضاء، والناس… جميعهم يعيشون تحت أنقاض الحقيقة الغائبة. ما لم تتحقّق العدالة، وما لم يُرفَع الغطاء عن الفساد المؤسسي، سيبقى الانفجار حيًا في جسد المدينة.

ولبنان، كما قال الدكتور أنيس أبو دياب في ختام حديثه،" يستحق أن يعيش… ولكن لا يمكن لأي بلد أن ينهض على أنقاض الحقيقة"

المنشورات ذات الصلة