عصام شلهوب -خاص - "ايست نيوز"
بين بيروت وبروكسل، لم تعد الشيكات تمرّ كما كانت. في زاوية الضوء الأوروبي الحاد، وُضع لبنان تحت المجهر، لا كبلد منكوب اقتصاديًا فقط، بل كوجهةٍ مالية محفوفة بالمخاطر. القرار الأوروبي الأخير بإدراج لبنان في قائمة الدول "المقيدة" باليورو، وتصنيفه ضمن الدول “عالية المخاطر” في مجال تبييض الأموال وتمويل الإرهاب لم يكن مجرّد بند بيروقراطي جديد في سجل العلاقات الدولية، بل صفعة إضافية تنهال على الاقتصاد اللبناني المنهَك، كما يراها الخبير المصرفي والمالي الدكتور جو سرّوع.
يشرح سرّوع الوضع المستجد لـ "ايست نيوز" بكلمات تتقاطع فيها التقنية مع الألم الوطني، كيف أن الشيكات المحرّرة من لبنان والمدفوعة في المصارف اللبنانية ستتأثر حكماً بهذا الإجراء. إنه أثر لا يخفى على أحد في بيئة مالية عالمية تشهد تشددا استثنائيا على أنظمة الامتثال والمساءلة، خصوصًا منذ أن أدرجت المفوضية الأوروبية لبنان على قائمة الدول "عالية المخاطر" وفق التوجيه الأوروبي الخامس لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب (AMLD V).
القرار الأوروبي لا يأتي من فراغ، فهو يستند إلى معايير صارمة وضعتها مجموعة العمل المالي الدولية (FATF)، والتي أدرجت لبنان رسميًا على "اللائحة الرمادية" في تقريرها الصادر في 28 حزيران 2025، بعد أن فشل في تطبيق عدد من التدابير المطلوبة ضمن خطة العمل الموضوعة سابقا. وقد سارعت بروكسل إلى اعتماد هذه التصنيفات وتفعيل مفاعيلها ابتداءً من 5 آب 2025، إذ بدأت المصارف الأوروبية تطبيق إجراءات تحقق معززة (Enhanced Due Diligence) على كل المعاملات الواردة من لبنان أو المتصلة به.
وبحسب سرّوع، فإن المؤسسات المالية الأوروبية باتت ملزمة بالتحقق الدقيق من كل تفصيل في العمليات المصرفية المرتبطة بلبنان، لا سيما تلك التي تتم بالدولار الأميركي أو باليورو. ويترتب على ذلك أن تطلب هذه المؤسسات من نظيراتها اللبنانية، التي تعود إليها هذه العمليات — أي التحويلات أو الشيكات — تقديم مستندات إضافية تتعلق بمصدر الأموال، فضلاً عن معلومات مفصلة عن المستفيدين من تلك الأموال أو التحويلات.
لكن هذه المراجعات ليست مجرد مسألة شكلية، بل هي مدخل حقيقي إلى تعطيل العلاقات المالية مع الخارج. فكما يحذر سرّوع، قد تؤدي هذه الإجراءات إلى تأخير تنفيذ المعاملات، أو حتى إلى رفضها، في حال لم تتمكن المؤسسات اللبنانية من استيفاء متطلبات الامتثال الأوروبي، التي باتت محكومة بمعايير وقوانين صارمة لا تتهاون في قضايا الشفافية وتمويل الأنشطة غير الشرعية.
وهنا تبرز الكارثة المتوارية على ما يؤكده سروع : ليس فقط أن الدولة اللبنانية باتت مدرَجة على اللائحة الرمادية، بل إن المواطن اللبناني البسيط أصبح تحت الشبهة المالية الضمنية. من يدفع فاتورة جامعة أو مستشفى في أوروبا، أو يحوّل مخصصات لعائلته، قد يواجه عراقيل في مصرف أوروبي اعتاد خدمته سابقًا، لأن إجراءات "تجنّب المخاطر" (de-risking) قد تدفع هذه المصارف إلى رفض التعامل مع الزبائن اللبنانيين بشكل كامل.
وتزداد الصورة تعقيدًا حين نعلم أن هذه التدابير تُطبّق بالفعل في عدد من المصارف الأوروبية في قبرص ومونتينيغرو، التي كانت حتى وقت قريب تُعتبر متنفسًا ماليًا للبنانيين المقيمين في الخارج. هناك، بدأت تظهر إشارات تجميد حسابات لبنانيين، أو فرض متطلبات رقابية إضافية مرهقة عليهم، ما يجعل استخدام الحسابات الأوروبية للبنانيين، أفرادًا وشركات، أقرب إلى مخاطرة منه إلى خدمة مصرفية اعتيادية.
والأخطر، بحسب سرّوع، أن بعض المؤسسات الأوروبية قد تلجأ إلى قطع العلاقة نهائيًا مع المصارف اللبنانية، من باب الوقاية من السمعة السلبية، وهو ما يُعرف دوليًا بـ “مخاطر السمعة”، التي قد تُعرض هذه المؤسسات لعقوبات أو مساءلات من السلطات التنظيمية في بلدانها.
إن اليورو نفسه أصبح عملةً عصيّة على اللبنانيين، لا بفعل سعر الصرف، بل بسبب فقدان الثقة بالبيئة الرقابية اللبنانية، التي فشلت حتى الآن في الإيفاء بالحد الأدنى من التزاماتها الدولية. ذلك أن المنظومة المصرفية لم تتمكن من إقناع العالم بأنها قامت بإصلاحات جدية تواكب المعايير العالمية في مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، رغم كثرة التوصيات والتقارير.
في قراءة الدكتور سرّوع، لا نحتاج إلى مؤشرات مالية لقياس الكارثة؛ يكفي أن نرى كيف أصبحت العملة الأوروبية الموحدة بابًا مغلقًا أمام تحويلات كانت حتى الأمس القريب تمرّ من دون تردد. وما يجدر التفكير فيه ليس فقط كيف نُخرج أنفسنا من هذه اللائحة، بل كيف نعيد بناء منظومة ثقة انهارت تمامًا، من المصرف المركزي حتى آخر مصرف تجاري.
ما يقوله الدكتور جو سرّوع ليس مجرد تحذير مالي، بل هو توصيف دقيق لتحوّل لبنان من لاعب مالي هشّ إلى طرف غير مرغوب فيه على رقعة الأسواق العالمية. والمشكلة لا تكمن فقط في تصنيف سياسي أو تقني، بل في عمق الثقة المنهارة بين النظام المصرفي اللبناني والمنظومات المالية العالمية، حيث العملة لا تعني فقط القيمة، بل تعني الموثوقية.
ولبنان، في لحظته الحالية، لا يملك لا هذه… ولا تلك!