شهدت خارطة القوى التكنولوجية في العالم تحولاً لافتاً، حيث أثبتت دولة الإمارات العربية المتحدة نفسها كلاعب أساسي في سباق الذكاء الاصطناعي العالمي. هذا التقدم لم يكن مفاجئاً لمن يتابع المساعي الحثيثة للدولة في هذا المجال، فقد أسست بنية تحتية قوية، وأطلقت مبادرات رائدة، وشهدت استثمارات هائلة.
أمام هذا الإنجاز النوعي الذي وضع الإمارات في صدارة المشهد العالمي، متقدمة على دول عريقة في مجال التكنولوجيا، تُطرح أسئلة جوهرية أبرزها، كيف رسخت الإمارات مكانتها ضمن القوى العظمى في هذا المجال؟ وهل باتت بالفعل على رأس سباق الذكاء الاصطناعي العالمي؟
تُظهر التحليلات والتقارير العالمية أن المكانة المتقدمة التي حققتها الإمارات في سباق الذكاء الاصطناعي هي نتاج استثمار مباشر في البنية التحتية الأساسية. فقد كشف تقرير صادر عن "تي آر جي داتا سنترز"، التي تتخذ من تكساس مقراً لها والمتخصصة في قدرات الحوسبة الفائقة الوطنية للذكاء الاصطناعي ونشاط الشركات في هذا القطاع وجاهزية الحكومات، أن الإمارات تُصنّف في المركز الثاني عالمياً، خلف الولايات المتحدة مباشرةً، في مؤشرات قوة الذكاء الاصطناعي.
وأوضح التقرير أن هذا التفوق يعود إلى امتلاك الدولة ما يزيد عن 188 ألف شريحة ذكاء اصطناعي، بالإضافة إلى قدرة طاقة كلية تبلغ 6.4 ألف ميغاواط. هذه الأرقام تُسلط الضوء على أن قوة الحوسبة هي حجر الزاوية في استراتيجية الإمارات لتحقيق التفوق التكنولوجي.
بيئة متكاملة تدعم الابتكار
يتجاوز طموح الإمارات مجرد الاستثمار في البنية التحتية، ليمتد إلى تأسيس بيئة متكاملة تدعم الابتكار. فبحسب تقرير آخر من شركة Counterpoint Research، تفوقت دبي على مدينة سان فرانسيسكو في معدلات تبني الذكاء الاصطناعي، وهو ما يُشير إلى تبني واسع للتقنيات الحديثة على مستوى المدينة. وتُؤكد دراسة لمنصة كورسيرا للتعلم الإلكتروني أن الإمارات تُعد رائدة في نضج الذكاء الاصطناعي على مستوى العالم العربي، وهو ما يعكس الجاهزية العالية للكوادر والمؤسسات.
على الصعيد الحكومي، اعتمدت الإمارات نهجاً استباقياً في تنظيم القطاع، مما ساهم في جذب الاستثمارات والشراكات الدولية. كانت الإمارات من أوائل الدول التي عينت وزيراً للذكاء الاصطناعي في عام 2017، كما أسست جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي في عام 2019، لتكون مركزاً أكاديمياً متخصصاً في هذا المجال. ويُعزّز هذا التوجّه إطلاق نظام تصنيف جديد يوضح استخدام الذكاء الاصطناعي في الأبحاث والمنشورات، مما يُظهر التزاماً بالشفافية والتوثيق.
ويُتوقع أن تُعزّز الإمارات مكانتها الريادية بشكل أكبر في المستقبل، خاصةً مع المشاريع الطموحة قيد الإنشاء. ويُعد مشروع الحرم الجامعي المشترك بين الإمارات والولايات المتحدة للذكاء الاصطناعي، بقدرة 5 غيغاواط، من أبرز هذه المشاريع. يُنظر إلى هذا المشروع على أنه أحد أكبر مشاريع البنية التحتية للذكاء الاصطناعي على مستوى العالم، ويُمكن أن يضمن للإمارات دوراً محورياً في هذا القطاع لسنوات قادمة.
مبادرات تجسد نهج استراتيجي شامل
في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية أكد عاصم جلال استشاري العلوم الادارية وتكنولوجيا المعلومات في" G&K " أن دولة الإمارات رسخت مكانتها كقوة عظمى في مجال الذكاء الاصطناعي من خلال نهج استراتيجي شامل. وقد تجسدت رؤيتها الطموحة في مبادرات ملموسة شملت:
الاستراتيجية الوطنية: إطلاق "استراتيجية الإمارات للذكاء الاصطناعي 2031" بهدف جعل الدولة رائدة عالمياً في هذا المجال.
تنمية المواهب: الاستثمار في التعليم من خلال برامج مثل "مخيم الذكاء الاصطناعي" وتأسيس جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي، وهي الأولى عالمياًفي هذا التخصص. ويؤكد تقرير ستانفورد لمؤشر الذكاء الاصطناعي لعام 2025 أن الإمارات تحتل المرتبة الثالثة عالميًا في صافي هجرة المواهب في مجال الذكاء الاصطناعي.
البنية التحتية والبيئة التنظيمية: إنشاء بيئة قانونية داعمة، حيث أشار تقرير IMD للتنافسية الرقمية لعام 2024 إلى أن الإمارات تتمتع بميزة في تطبيق "سيادة القانون الرقمي".
التعاون الدولي: بناء شراكات استراتيجية مع عمالقة التكنولوجيا مثل مايكروسوفت وغوغل وNVIDIA، بالإضافة إلى مبادرة مايكروسوفت لتدريب مليون مقيم في مجال الذكاء الاصطناعي.
قوة عالمية
وأضاف جلال: "تؤكد البيانات والتقارير الدولية أن دولة الإمارات رسخت نفسها كقوة عالمية رائدة، وتتقدم بثبات لتكون على رأس هذا السباق. فبفضل رؤيتها الاستباقية واستثماراتها الضخمة، حققت قفزات نوعية في مختلف المؤشرات العالمية، ويشير التقرير الذي قدمته حول أقوى القوى العظمى في مجال الذكاء الاصطناعي في العالم لعام 2025، إلى أن الإمارات تحتل المرتبة الثانية عالمياً في تصنيف الدول الرائدة في مجال الذكاء الاصطناعي، متفوقة على العديد من الدول المتقدمة".
ورداً على سؤال حول كيفية تحويل الإمارات رؤيتها الطموحة إلى واقع عالمي في خارطة الذكاء الاصطناعي أوضح - استشاري العلوم الادارية وتكنولوجيا المعلومات في" G&K" أن رؤية الإمارات الطموحة تحولت إلى واقع ملموس من خلال تنفيذ خطط مدروسة أدت إلى نتائج واضحة وفقاً لما يلي:
التأثير الاقتصادي، من المتوقع أن يساهم الذكاء الاصطناعي بمبلغ 96 مليار دولار في الناتج الاقتصادي بحلول عام 2030، وهو ما يمثل 13.6 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي.
تكامل الذكاء الاصطناعي في الحكومة، تعد حكومة أبوظبي أول حكومة في العالم تقوم بدمج الذكاء الاصطناعي بنسبة 100بالمئة في خدماتها.
ابتكارات القطاع الخاص، حققت شركة بريسايت، التابعة لـ G42، إيرادات قياسية بلغت 1.09 مليار درهم في النصف الأول من عام 2025، مما يعكس النجاح في تحويل الابتكارات إلى نجاحات تجارية.
الريادة في البنية التحتية، أطلقت شركة Core42 منصة Sovereign AI Cloud، وأصبحت هيئة كهرباء ومياه دبي (DEWA) أول جهة حكومية خدمية تعتمد الذكاء الاصطناعي بشكل كامل.
استثمار الذكاء الاصطناعي في مختلف القطاعات الحيوية
بدوره، قال إيهاب الزلاقي خبير تكنولوجيا المعلومات في حديثه لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية": "إن ظهور الإمارات العربية المتحدة ضمن أكبر ثلاث قوي عظمي في تقنيات الذكاء الاصطناعي مسألة منطقية نظراً للاهتمام الكبير من قبل الدولة بهذا المجال منذ سنوات طويلة، والعديد من المبادرات والمشروعات المختلفة التي أطلقتها ومازالت تطلقها، وهي الجهود التي تحقق مجتمعة هذا المركز المتقدم عالمياً".
وأشار على سبيل المثال، إلى أن إطلاق الاستراتيجية الوطنية المتقدمة للذكاء الاصطناعي كان خطوة مبكرة في هذا الإطار، خاصة وأن الاستراتيجية تستهدف أن تكون حكومة الإمارات الأولى في العالم في استثمار الذكاء الاصطناعي بمختلف قطاعاتها الحيوية، بالإضافة إلى الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في الخدمات وتحليل البيانات بمعدل 100بالمئة بحلول عام 2031.
أيضا، فإن هذا المركز المتقدم يتعلق أساساً بالبنية التحتية المتطورة، التي تستثمر فيها دولة الإمارات، وعلى رأسها المراكز التعليمية مثل جامعة محمد بن زايد للذكاء الاصطناعي، وهي أول جامعة عالمية متخصصة في دراسات وبحوث الذكاء الاصطناعي. ومعهد الابتكار التكنولوجي وهو مؤسسة بحثية عالمية متخصصة في توسيع آفاق المعرفة والأبحاث العملية المتقدمة بما في ذلك الذكاء الاصطناعي، وينفذ المركز أبحاثا مشتركة مع كبريات الجامعات في أوروبا والولايات المتحدة، الأمر الذي يجعله سباقاً في هذا المجال، بحسب تعبيره.
شراكات استراتيجية مع كبار اللاعبين العالميين
وأضاف الزلاقي: "وربما يكون أهم ما تفعله الإمارات في هذا المجال، هو الشراكات الاستراتيجية مع كبار اللاعبين العالميين في الذكاء الاصطناعي، سواء على مستوي تطوير النماذج اللغوية، أو على مستوي تطوير الأجهزة والمعدات اللازمة لتطوير النماذج، وربما يكون أبرز هذه الجهود هو شركة MGX التي تأسست عام 2024 بهدف إدارة استثمارات تصل إلى 100 مليار دولار لتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي بشراكات استراتيجية مع أسماء مثل مايكروسوفت و Open AI وأوراكل وبلاك روك".
كما ذكر أن من أبرز الدلائل على المستوي الذي بلغته الإمارات في هذا المجال عالمياً، الاتفاق على مشروع إنشاء مجمع الذكاء الاصطناعي بالشراكة مع الولايات المتحدة في أبوظبي بطاقة تبلغ 5 جيجا واط، والذي سيكون أكبر مشروع من نوعه خارج الولايات المتحدة، بما يسمح للإمارات بالحصول على أكثر الشرائح الأميركية المتطورة والتي تسمح بتدريب النماذج اللغوية وتطوير التقنيات المتعلقة بالذكاء الاصطناعي، وهو المشروع الذي من شأنه أن يضع الإمارات في قلب قيادة مشروعات تطوير تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في العالم.
وختم خبير تكنولوجيا المعلومات بقوله: "التخطيط، والتأسيس الجيد للمستقبل، والاستثمار في البشر والبنية التحتية المتطورة، بالإضافة إلى دعم الدولة لهذه الجهود ومنذ مراحل مبكرة للغاية، يؤكد أن المركز الذي بلغته الإمارات حالياً في هذا المجال هو مجرد بداية سيكون لها ما بعدها، خاصة كلما تحولت الرؤية الاستراتيجية للإمارات حول الذكاء الاصطناعي إلى واقع حقيقي على الأرض".