جوي ب. حداد – خاص – "إيست نيوز"
لم يعد مشهد "التوك توك" يتجوّل في أحياء طرابلس وصيدا والبقاع مشهداً غريباً. هذه العربة الصغيرة ذات العجلات الثلاث أصبحت جزءاً من يوميات اللبنانيين، خصوصاً أولئك المنهكين من غلاء النقل وغياب البنى التحتية. فمنذ سنوات قليلة كان ظهوره يثير الاستغراب وربما السخرية، أما اليوم فقد تحوّل إلى رمزٍ للقدرة على التكيّف مع واقع اقتصادي خانق.
في ظلّ الانهيار الاقتصادي الذي يضغط على اللبنانيين منذ العام 2019، باتت "التوك توك" أكثر من مجرّد مركبة غير مألوفة. صارت حاجةً ملحّة للفقراء والطبقة الوسطى على حدّ سواء، ومن حلّ فردي محدود إلى وسيلة جماعية تعوّض غياب النقل العام المنظّم، وتسدّ فراغاً تركته الدولة في شوارع المدن والقرى.
لكن هذا الواقع اصطدم مؤخّراً بقرار من وزارة الداخلية يمنع استخدام "التوك توك" لنقل الركاب، ويقصر عمله على الاستخدام الفردي أو التجاري فقط.
قرارٌ سرعان ما أشعل احتجاجات في أكثر من مدينة، أبرزها طرابلس، حيث يُقدّر عدد سائقي "التوك توك" هناك بأكثر من 500 سائق يعيشون وعائلاتهم من هذا العمل.
شهادات من الميدان
طارق عاصم، شاب ثلاثيني يعمل على عربة "توك توك"، قال إنه اضطر للاستدانة لشرائها بهدف إعالة أسرته. "القرار مجحف"، يقول، "نحن لا نسرق ولا نتحايل، بل نحاول النجاة". أما زكريا مراد، فاشترى عربته بثلاثة آلاف دولار، وسجّلها رسمياً بعد دفع رسوم قانونية قاربت 600 دولار. يوضح: "إذا كانت الدولة لا تريد أن نعمل، فلتقدّم بديلاً. لا يمكنها أن تسحب منا مصدر رزقنا الوحيد ثم تطلب منّا الصمت".
وفي تصريح لـ "إيست نيوز"، يقول "أبو رامي" (اسم مستعار)، وهو أحد سائقي "التوك توك" في طرابلس: "اشتريت التوك توك بعدما أفلس محلّي، وصار هو مصدر رزقي الوحيد. عم بشتغل من الصبح للمسا لأطعم ولادي. فجأة بيطلع قرار بمنعنا من نقل الناس؟ ليه؟ شو البديل؟ نحنا ناس بدها تعيش مش تسرق". ويضيف بنبرة غضب ممزوجة بالخوف: "الدولة عم تحاربنا بدل ما تنظّمنا. نحنا مش عبء، نحنا حل بغياب النقل العام".
وسيلة للناس أيضاً
"التوك توك" لم يُثر فقط تعاطف السائقين، بل شكّل حلاً عملياً لعدد كبير من المواطنين. فاطمة العلي، ربة منزل من طرابلس، تعتبر أن "التوك توك" ساعدها على التنقل اليومي بسلاسة وكلفة مُنخفضة. تقول: "الحظر سيزيد معاناتنا، خاصة أن البدائل معدومة". أما وسام العبد، موظّف في أحد المحال التجارية، فيجد في هذه الوسيلة "خياراً عملياً واقتصادياً، ولا حاجة لنا بالمظاهر حين تكون الأولوية للوصول إلى أعمالنا ومدارس أولادنا".
ويُشير بعض الأهالي إلى أن هذه المركبات الصغيرة كانت في أوقات كثيرة أسرع وأكثر مرونة من سيارات الأجرة أو الفانات المهترئة، خصوصاً في الأحياء الضيقة أو خلال الازدحام المروري.
واقع قانوني مُلتبس
ظهر "التوك توك" في لبنان قبل نحو خمس سنوات، وبدأ انتشاره يتسارع بعد 2019 مع تصاعد الانهيار الاقتصادي وارتفاع أسعار البنزين وقطع غيار السيارات. تتراوح أسعاره بين 1500 و3000 دولار، حسب الحجم والمواصفات، ويسجَّل قانوناً كـ"دراجة آلية ثلاثية العجلات"، لكن لا يُرخَّص له بنقل الركاب.
ورغم غياب الترخيص الرسمي، فرضت الحاجة واقعاً مُغايراً. مع كل رحلة، كان "التوك توك" يسدّ فجوة تركتها الدولة: لا نقل مُشترك، لا تنظيم، ولا خطّة مُستدامة. والنتيجة؟ قطاع عشوائي وفعّال في آن، يحاول البقاء على قيد الحياة بين مطرقة القانون وسندان الحاجة.
بين المنع والتنظيم
اليوم، يُطرح السؤال بحدة: هل يُمنع الفقراء من اجتراح حلولهم؟ وهل الحلّ في المنع، أم في تنظيم هذا القطاع بما يضمن السلامة العامة وحقّ العيش الكريم للسائقين والركاب معاً؟ فبينما ترى السلطات أن المنع يهدف إلى حفظ النظام والحد من الفوضى المرورية، يرى المواطنون أن غياب أي بدائل واقعية يجعل القرار غير منطقي، بل تعسّفياً بحق آلاف العائلات.
في بلدٍ عاجز عن إصلاح شبكات النقل وتوفير الحد الأدنى من الخدمات، يبدو "التوك توك" بمثابة إنذار مُتحرّك: إنذار بوجع الناس، وابتكارهم، وإصرارهم على العيش رغم كل شيء. فإما أن يُقابل هذا الإصرار بالاحتواء والتنظيم، وإما أن يتحوّل قرار المنع إلى وقودٍ جديد لأزمات اجتماعية لا تنتهي.