عاجل:

الجنوبٌ على خط التحوّلات الكبرى: من رسائل نتنياهو إلى مشاريع الغاز… ما الذي يُرسم للمنطقة؟ (خاص)

  • ٣٩

خاص ـ "إيست نيوز"

عصام شلهوب

صاغ رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو ومكتبه جلسة "الميكانيزم" الموسعة كخطوة أولية "لبناء أساس لعلاقة وتعاون اقتصادي بين إسرائيل ولبنان"، مؤكّدين أنها محاولة مدنية ـ اقتصادية داخل إطار آلية وقف الأعمال العدائية، وليست مفاوضات سلام أو تطبيع رسمي.

هذه الصياغة تخدم هدفين:

 إعطاء البعد الدولي وخصوصاً الأميركي إطارًا عمليًا (اقتصاديًا) يمكن الترويج له أمام مؤسسات التمويل والشركاء، وتجنّب إعلان أي التزام دبلوماسي أو تنازل سياسي رسمي من جانب إسرائيلي.

جاء تصريح نتنياهو ليكشف عن طبقة أعمق من الحسابات الدفينة التي تتحرك في كواليس الإقليم. فالكلمة التي بدت للوهلة الأولى توصيفًا تقنيًا لمسار محصور بضبط وقف الأعمال العدائية، سرعان ما تحوّلت إلى إشارة سياسية ذات دلالة، خصوصًا في هذا المفصل الذي يشهد إعادة هندسة للمصالح الإقليمية في شرق المتوسط وصعود دور الطاقة البحرية في حسابات القوى الكبرى. واللافت أنّ توقيت الحديث عن «بعد اقتصادي» لم يكن منعزلًا عن السياق، بل جاء متزامنًا مع طرح أميركي أكثر جرأة أعاد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إحياءه أخيرًا، يقضي بتحويل الجنوب اللبناني إلى منطقة مزدهرة، «جنة اقتصادية» تعمل كمنطقة عازلة ناعمة تتكئ على الاستثمار بدل المدافع، وتفتح الباب أمام بنية جديدة للنفوذ الأميركي في البيئة الحدودية.

داخل هذا الإطار، يتقدّم السؤال: لماذا اختار نتنياهو هذه اللغة الآن؟

 تشير المعطيات الدبلوماسية المتقاطعة إلى أنّ واشنطن دفعت بقوة نحو إدخال مدنيين إلى جلسات «الميكانيزم» لا باعتبار الأمر تفصيلًا إداريًا، بل كخطوة مقصودة لتوسيع نطاق النقاش وإعطائه بعدًا اقتصاديًا يمكن البناء عليه لاحقًا. فالإدارة الأميركية، التي تبحث عن آليات استقرار طويلة الأمد، ترى أن التنمية قد تكون المدخل الأنسب لخلق بيئة اجتماعية في الجنوب اللبناني تُفضّل الاستقرار على الانفجار، وتضعف تلقائيًا موقع المجموعات المسلحة، بما يتوافق مع فلسفة «شراء الاستقرار» التي تتبناها واشنطن في الميادين الحساسة.

أما إسرائيل، فتنظر إلى هذه المقاربة بعيون استراتيجية باردة. فالتطورات البحرية ـ من ازدهار حقول الغاز في شرق المتوسط الى مشاريع ربطها بقنوات التصدير نحو أوروبا عبر مصر أو قبرص ـ جعلت الاستقرار الحدودي ضرورة أمنية واقتصادية في آن. حماية منشآت الغاز، وضمان حرية مرور خطوط الأنابيب، وتأمين منصات الإنتاج البحرية، كلها أهداف تتطلب بيئة هادئة شمالًا. لذلك تسعى تل أبيب إلى تقديم المسار الحدودي بصيغة أقلّ استفزازًا للبنان، وأكثر قابلية للتسويق دوليًا، من دون أن تدخل في مسار سياسي مباشر يشبه التطبيع، وهو ما يفسّر تمسّكها بـ«اللغة الاقتصادية» في لحظة تبدو فيها السياسة مكلفة وغير قابلة للتسويق.

لبنان متمسك بالإطار السابق للمفاوضات

في المقابل، يتجلى الموقف اللبناني بتمسكه بالثوابت التي حكمت أي مفاوضات حالية وسابقة، ولذلك، لا يتعامل مع هذه المقاربة بخفّة. فالحساسية الداخلية تجاه أي خطوة قد تُفهم كتطبيع مقنّع، إضافة إلى تعقيدات السلطة وموازين القوى، تجعل بيروت متمسّكة بإطار واحد: الآلية الحالية محصورة بوقف الأعمال العدائية، ولا تتعدّى ذلك إلى أي نقاش سياسي أو اقتصادي مع إسرائيل. هذا الحرص يعكس إدراكًا لبنانيًا دقيقًا بأنّ أي انزلاق في المفردات قد يفتح بابًا يصعب إغلاقه، خصوصًا أنّ مشاريع الطاقة البحرية التي يراهن عليها لبنان ـ من اتفاق الترسيم مع قبرص إلى الدورة النفطية الجديدة ـ تحتاج إلى غطاء سيادي صلب، وإلى حماية إقليمية لا تقوم على صفقات جانبية.

ومع ذلك، يتحرك المشهد السياسي في هامش رمادي يسمح للطرفين بإبقاء الأبواب مواربة. الأميركيون يعرضون تصورًا تنمويًا طويل الأمد للجنوب، مبنيًا على تمويل دولي واستثمارات في البنى التحتية والطاقة، ويأملون أن يتحوّل تدريجيًا إلى مسار استقرار قابل للقياس. إسرائيل تستفيد من هذا الاتجاه لتخفيف مستوى الاحتكاك على حدودها الشمالية، ولإعادة تشكيل صورتها في المحافل الدولية بصفتها طرفًا مستعدًا لـ ـ«تعاون اقتصادي» لا لـ «تطبيع سياسي». ولبنان، رغم حساسيته، يدرك أن أي استثمار مستقبلي في موارده البحرية يحتاج إلى حد أدنى من التهدئة، شرط ألا يتحوّل ذلك إلى تنازل سياسي.

في الجوهر، لا يمكن النظر إلى جملة نتنياهو بوصفها مجرد تعبير عابر، بل باعتبارها خطوة محسوبة ضمن مشروع أكبر تعيد واشنطن وتل أبيب صياغته: إيجاد بيئة حدودية جديدة تُدار بأدوات اقتصادية وأمنية في الوقت نفسه، وفتح الباب تدريجيًا أمام نمط من الاستقرار القابل للتسويق دوليًا، بما ينسجم مع خريطة الطاقة المتغيرة في شرق المتوسط. وبينما يبدو الطريق إلى هذا النموذج طويلًا ومليئًا بالعقبات الداخلية والإقليمية، فإنّ المؤكد أنّ الجنوب اللبناني أصبح اليوم جزءًا من مشروع أوسع يتجاوز الحدود، ويضعه في قلب معادلة يتنافس فيها النفط والغاز والسياسة على رسم المشهد الإقليمي لعقود مقبلة.

المنشورات ذات الصلة