كتب احمد العبد:
عاش الأهالي في قطاع غزة طوال يوم أمس، كل المشاعر المتناقضة: الفرح بتوقّف حرب الإبادة، الشوق إلى العودة إلى الأحياء والمدن التي هُجّروا منها، الحزن على استشهاد أحبائهم بل وتحلُّل أجسادهم، الدهشة بعودة آخرين من الموت بعد أن ظنّ ذووهم أنهم قُتلوا، ثم الوجوم والذهول مما شاهدوه من خراب ودمار في رفح وجباليا وبيت لاهيا وبيت حانون. ولعلّ من راقب التفاؤل في وجوه النازحين الذين استبقوا شروق الشمس ودخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، ووصلوا تباعاً إلى المناطق التي انسحبت منها آليات الاحتلال في أحياء الصفطاوي ثم الفالوجا وبئر النعجة ومخيم جباليا وتل الزعتر، ثم يلاحظهم وهم في طريق العودة، يدرك قدر التنكيل النفسي الذي تعرّض له هؤلاء مما شاهدوه.
لا منازل قائمة في كل شمال القطاع؛ إذ سُويت عشرات الآلاف منها بالأرض. وتقول أم محمد مطر وهي تجلس على ما تبقّى من ركام بيتها: «أمضيت ساعتين حتى أستدل على الشارع الذي كان فيه بيتي». وتضيف، في حديث إلى «الأخبار»، أنهم «منذ بداية الحرب لم يتركونا وشأننا شهراً واحداً. كان اجتياحهم الأخير انتقاماً منا لأننا صمدنا وصبرنا وعاندناهم. ذهب بيتي وبيوت الناس كلها، وأصبح الجميع بلا مأوى، لكننا بقينا أحياء، والأحياء سيُعمّرون. هذه الأرض غالية، ومجبولة بدماء أبنائنا الشهداء. وسوف نتمسّك بها ونحبها أكثر».
أما في مشروع بيت لاهيا، فحوّل جيش الاحتلال الحي المكتظّ إلى غابة من الإسمنت، لن تشاهد في أفقها سوى أكوام من الخراب، يمضي الأهالي وقتهم في محاولة التمرّد عليها. ويقول أبو أمجد الذي التقته «الأخبار» وهو منشغل بتنظيف إحدى غرف المنزل التي سلمت من التدمير، إن «الدمار أكبر من طاقتنا يا خال»، مضيفاً «أننا لا نتكلم عن مجرد تدمير منزل أو حتى عدة منازل، ولا عن تدمير مربّع سكني وتضرّر منازل أخرى. ما حدث تدمير ممنهج، وفق مخطط لتحويل الحي وكل أحياء شمال القطاع، إلى مناطق غير صالحة للعيش الآدمي. وأكثر من ذلك، يريد الاحتلال أن يعجز النازحون عن استصلاح ولو غرفة واحدة من منازلهم، بل أن لا يجدوا مكاناً ينصبون عليه خيمة، لأن إزالة هذا الركام تحتاج إلى مجهود وخبرة دول كبرى وقرار سياسي».
على أن المنازل ليست أكبر الخسائر؛ فالمئات من النازحين عادوا للبحث عن أحبائهم، أو عن رفاتهم وجثامينهم. ولم يجد طارق أبو الطرابيش، الذي فقد جميع أفراد عائلته، ما يقوله، إذ بدا مصابه بمنزله المدمّر لا يعني شيئاً له. ويقول لـ»الأخبار»: «أصلاً لمن سيبقى المنزل؟ أهله كلهم رحلوا». وكانت عائلة أبو الطرابيش التي رفضت النزوح من بيت لاهيا استشهدت في غارة استهدفت المبنى الذي كانت تسكنه، بينما لم تستطع أي سيارة إسعاف الوصول إليها. ويضيف الشاب المكلوم: «حتى اللحظة جثامينهم الطاهرة تحت سقف المنزل. كل البيوت في الشمال مقابر لأهلها. فالذين رفضوا النزوح والتهجير، قُتلوا جميعاً».