عاجل:

بعد العودة الى مقر مجلس الوزراء الدائم: نائب رئيس مجلس الوزراء: لأي مهام؟ خاص (1 من 2)

  • ٣٢

بقلم : الدكتور سليم الزيبق

خاص – بـ "ايست نيوز"

في الوقت الذي قررت فيه الحكومة في اجتماعها الاخير الخميس الماضي  العودة الى اعتماد المقر الدائم لمجلس الوزراء في المتحف لعقد اجتماعاته عملا بما قال به اتفاق الطائف. وغداة هذه الخطوة تعددت الاسئلة عن باقي الإصلاحات المطلوبة ومنها التوصل الى نظام داخلي لمجلس الوزراء يحدد صلاحيات نائب رئيس الحكومة التي طال انتظارها. ولالقاء الضوء على هذه الخطوة الاصلاحية وما يمكن ان تقود اليه، أعد الأستاذ الجامعي في القانون العام المتقاعد من كلية الحقوق - جامعة ستراسبورغ - فرنسا الدكتور سليم الزيبق دراسة مفصلة تنشرها "ايست نيوز" على جزئين وهذا هو الجزء الاول:  

ان حكومة الدكتور نوّاف سلام الحالية هي الحكومة الثامنة والسبعون منذ الاستقلال، والحكومة السابعة التي لم يعط فيها لنائب رئيس مجلس الوزراء حقيبة وزارية*، مما يطرح مسالة الصلاحيات التي تعود لشاغل هذا المنصب والموقع الذي يحتله في النظام السياسي اللبناني. ضمن هذا الاطار، يروي الأستاذ حكمت أبو زيد (مجلة الشراع، 1 شباط 2025 )،  الذي أمضى واحد وثلاثين سنة ونيف في رئاسة الحكومة كمستشار اعلامي، ان عددا من الوزراء في حكومة الرئيس رشيد الصلح،في عهد الرئيس الهراوي، تقدم باقتراح يهدف الى تحديد صلاحيات نائب رئيس مجلس الوزراء في حال غياب الرئيس؛ ولكن الرئيس الصلح عارض الاقتراح رغم موافقة الرئيس الهراوي واغلبية الوزراء وقال: " نحن السُنة ما منقبل الاقتراح.." فصُرف النظر عنه. في اليوم التالي رفض الاقتراح، حضر الى السرايا الوزير ميشال المر، نائب رئيس مجلس الوزراء في ذلك الوقت، واختلى بالرئيس الصلح بعض الوقت وعند مغادرته طلب الرئيس الصلح من الأستاذ حكمت أبو زيد ان يبلغ رجال الصحافة ان رئيس الحكومة استقبل " دولة " نائب رئيس مجلس الوزراء الأستاذ ميشال المر. وعندما استغرب الأستاذ أبو زيد التسمية قال له الرئيس الصلح: " مبارح بمجلس الوزراء ما عطينا الروم صلاحيات خلّينا نرضّين باللقب".

     بمعزل عن هذه القصة الطريفة، يجب الإشارة إلى أنه تعود بين الفينة والفينة إلى بساط البحث مسألة صلاحيات نائب رئيس مجلس الوزراء ودوره في ظل نظام سياسي قائم على مبدأ توافق ومشاركة العائلات الروحية التي يتكون منها الشعب اللبناني في إدارة شؤون البلاد.

ويتبين من جملة الآراء والطروحات، أن البعد الطائفي لنظامنا السياسي يرخي بظلاله على هذه المسألة، التي كان من المفترض أن لا يتعدى التطرق إليها، نطاق النقاش المسؤول والبحث القانوني الموضوعي المجرد من أية مصلحة سياسية كانت أم طائفية. فَردّاً على المطالبة بأن يمارس نائب رئيس مجلس الوزراء صلاحيات الرئيس، أو بعضها على الأقل، عند غيابه، تتعدد الحجج الرافضة وتتنوع. إلا أننا لن نعول إلا على تلك التي تتسم بطابع قانوني ومنها:

 1-إن الدستور لم يلحظ هذا المنصب وبالتالي فإن نيابة الرئاسة شرف والمنصب فخري؛

2- إن مهام نائب رئيس مجلس الوزراء تمس بمسألة ميثاقية، أي بصلاحيات رئيس الحكومة، التي حُسِمَت في الطائف ثم تجسدت في نصوص دستورية، وبالتالي لا يمكن مقاربتها إلا بالوسائل الدستورية، أي بتعديل الدستور.

إن هذين الرأيين، يطرحان مسألتين دستوريتين: مسألة الطبيعة القانونية لمنصب نائب رئيس مجلس الوزراء ومسألة دستورية تكليف نائب الرئيس بممارسة بعض صلاحيات الرئيس. لذلك سنتطرق في هذا البحث إلى هاتين المسألتين محاولين أن نثبت تباعا الطبيعة الدستورية لهذا المنصب وإمكانية ممارسة شاغله لبعض صلاحيات الرئيس بدون أي تعديل دستوري.

أولا: الطبيعة الدستورية لمنصب نائب رئيس الحكومة

من المعروف أن الدستور اللبناني لم يأت على ذكر "نائب رئيس مجلس الوزراء" أسوة بسائر الرؤساء، وبالأحرى لم يحدد صلاحياته. وإنما كما بَيّنَه الدكتور وليد عبلا ("دولة نائب رئيس مجلس الوزراء" لماذا لا نُعدل الدستور؟ النهار 25 حزيران 2001). نشأ منذ العام 1941 (حكومة السيد أحمد الداعوق) تقليد على إسناد هذا المنصب إلى أحد الوزراء الأرثوذكس بعد ما وُزعت المناصب الثلاثة العليا في الدولة على الطوائف الثلاث الكبرى.

كذلك الدستور الفرنسي للجمهورية الثالثة   الصادر سنة 1875 لم يأت على ذكر منصب رئيس الحكومة. إلا أنه ومنذ بداية هذه الجمهورية، وبالتحديد منذ سنة 1876 درج رؤساء الجمهورية على تسمية أحد الوزراء رئيسا لمجلس الوزراء du Conseil)    Président) . فهل يمكن البناء على هذا الفراغ لنفي أي صفة دستورية عن المناصب المعنية؟ بالطبع كلا. ففي مقالة نشرها سنة 1920 رئيس الحكومة الفرنسية Poincaré R.، انطلق المؤلف من واقعة عدم ذكر الدستور لمنصب رئيس الوزراء ليشكك بدستورية هذا المنصب ويعترف بالتالي بإمكانية إلغائه. إلا أن أشهر فقهاء القانون الدستوري في تلك الحقبة رفضوا القبول بنظرية نشوء المنصب خارج نطاق الدستور  constitutionnelle) (Création extra-، استنادا إلى الخصائص العُرفية لدستور سنة 1875 وإلى روح هذا الدستور الذي يتكلم عن "مجلس وزراء"، إذ لا "مجلس" من دون "رئيس". فَتَحْتَ عنوان "دستورية رئاسة المجلس" « Constitutionnalité de la présidence du conseil » ، كتب الفقيهان Duez et Barthélemy

« Il est remarquable que les lois constitutionnelles restent complètement muettes sur un personnage aussi important que le Président du Conseil ... Certains se hâtent de conclure de ce silence que (...) la présidence du Conseil serait une création extra-constitutionnelle. Cette théorie a même reçu l'appui formel de Poincaré (...). Quelque haute que soit l'autorité de l'écrivain, nous refusons d'admettre cette thèse :1° il ne faut pas oublier le caractère coutumier de la Constitution de 1875 ; elle adopte en quelques mots tout le régime parlementaire (...). 2° la Constitution parle du « Conseil des ministres » ; il n'y a pas de Conseil sans président ». (Traité de droit constitutionnel – édition 1933 – Panthéon – Assas, 2004, p. 665)

فكما أنه، في ظل نظام برلماني، لا وجود "لمجلس" بدون "رئيس" ينظم عمل الحكومة ويتحمل المسؤولية السياسية أمام البرلمان، فلا وجود لمبدأ "استمرارية عمل السلطات العامة" في الدولة بدون "نائب رئيس".

إن هذا البُعد الدستوري لمنصب نائب رئيس الحكومة كان في صلب رأي مجلس شورى الدولة اللبناني رقم 92/80 الصادر بتاريخ 25/5/1992. ففي هذا الرأي اقترح المجلس، "عملا بمبدأ استمرارية المؤسسات العامة ( ( Principe de continuité des pouvoirs publics) في حال الغياب ومن أجل تأمين العمل في مجلس الوزراء وتسيير شؤون الدولة ومؤسساتها ..." أن تضاف فقرة إلى نص المادة السابعة من مشروع المرسوم المتعلق بتنظيم أعمال مجلس الوزراء تتضمن ما يلي: "ويترأس نائب رئيس مجلس الوزراء في حال وجوده جلسات مجلس الوزراء في حال غياب رئيس مجلس الوزراء وإلا فأكبر أعضاء المجلس سنا".

فمبدأ استمرارية عمل المؤسسات العامة يتمتع بقيمة دستورية ولو لم ينص عليه الدستور. لذلك درجت العادة في فرنسا منذ الجمهورية الثالثة على أن يحل وزير العدل محل رئيس الوزراء أثناء غيابه:

« C'est le Garde des sceaux qui, par la nature même de ses fonctions, est appelé à remplacer le président du Conseil en cas d'empêchement ou de maladie, bien qu'il n'y ait en la matière, ni loi, ni décret... » (Eugène Pierre, traité du droit politique électoral et parlementaire, supplément, 1924, p. 134).

ولا يُرد علينا بنفي البُعد الدستوري لمنصب نائب رئيس مجلس الوزراء بحجة أنه نشأ ضمن إطار الميثاق الوطني إرضاء للطائفة الأرثوذكسية وليس حرصا على مبدأ استمرارية العمل الحكومي. فهذه الحجة تدعم موقفنا وتؤكد على الطابع الدستوري لهذا المنصب طالما أن هذا الإرضاء لا يمكن إلا أن يرسّخ ميثاق العيش المشترك الذي تنص عليه مقدمة الدستور ذات القيمة الدستورية. (أنظر قرار المجلس الدستوري بتاريخ 18 أيلول 1995). يتضح مما تقدم إن للدساتير خصوصياتها وأن القيمة الدستورية ليست حكرا على النصوص المكتوبة المدرجة في صلب الدستور. فكما عبر عنه الجنرال ديغول في إحدى مؤتمراته الصحافية (31 كانون الثاني 1964) إن الدستور هو روح ومؤسسات وممارسة.

« Une constitution, c'est un esprit, des institutions, une pratique ».

فالرأي السائد هو أن الدساتير المكتوبة مهما كانت مُفصلة لا يمكن أن تشمل جميع قواعد الحكم. لذا استقر الرأي على جواز تكملة هذه النصوص بعادات يؤدي استمرارها، إذا استوفت شروطا معينة، إلى إعطائها قوة النص المكتوب.

إن وجود العُرف الدستوري يفترض توافر عنصرين: عنصرا ماديا يتوفر فيه التكرار والثبات والقدم. وعنصرا معنويا يتطلب الاقتناع بأن ما استقرت عليه العادة قد أصبح قاعدة قانونية تتمتع بقوة الإلزام. كذلك يميز الفقه بين نوعين من الأعراف: الأعراف التي تُكَمِّل الدستور (Praeter legem) والتي تحظى بشبه إجماع الفقهاء وتلك التي تخالف نصوصه Contra legem)) والتي تثيرالجدل.

مما لا شك فيه أن جميع شروط العُرف تتوافر في منصب نائب رئيس الوزراء. فهو عُرف مُكَمِّل للدستور لا يتناقض مع أي نص دستوري. أما من ناحية التكرار والثبات فكما ذكرنا سابقا فانه منذ سنة 1941 درجت العادة على إسناد هذا المنصب الى أحد وزراء الطائفة الأرثوذكسية، ومنذ الاستقلال لم يُخرق هذا العُرف إلا ثلاث مرات وذلك  إما احتراما للتوازن الطائفي الذي أخلّت به الظروف السياسية في حينه او بسبب الظروف الاستثنائية التي تمر بها البلاد. فسنة 1946 أسند هذا المنصب في حكومة الرئيس رياض الصلح إلى الوزير صبري حماده ( شيعي) نظرا لانتخاب أرثوذكسي (حبيب أبو شهلا) رئيسا لمجلس النواب. كذلك سنة 1952 تبوأ هذا المنصب الوزير ناظم القادري (سني) في حكومة الرئيس فؤاد شهاب الانتقالية نظرا لتبوء ماروني سدة رئاسة الحكومة التي تعود بحسب العُرف المستقر لأحد أبناء الطائفة السنّية. وأخيرا يجب الإشارة الى انه في اواخر عهد الرئيس سليمان فرنجية وفي ظل ظروف امنية استثنائية معروفة، تم تعديل حكومة الرئيس رشيد كرامي في 16 حزيران 1976 ليتولى الرئيس كميل شمعون منصب نائب رئيس الحكومة، بالإضافة الى حقائب وزارية أخرى،  حتى 9 كانون الأول سنة ،1976 أي لمدة سبعة اشهر فقط.  صحيح أن بعض الوزارات خلت من هذا المنصب (17 وزارة من أصل حوالي 78 منذ الاستقلال حتى اليوم). إلاّ أنه بالنسبة للقواعد (règles) التي لا تخص إلاّ السلطات العامة، كما هي الحال بالنسبة لموضوع بحثنا، فإن ما يعوّل عليه في تكوين العرف هو قناعة هذه السلطات بإلزامية هذه القاعدة وليس عدد المرات التي تكررت فيها.

Cf. Denis LEVY. De l'idée de coutume constitutionnelle, Mélanges Eisenmann, 1974, p.86.

وما الدليل على ذلك إلاّ قضية حلّ البرلمان إبان الجمهورية الثالثة من قبل رئيس الجمهورية الفرنسية Mac Mahon سنة 1877. فهذا الحل، الذي أدّى فيما بعد إلى استقالة الرئيس المذكور، نتج عنه، خلافا للقول المأثور "مرّة واحدة لا تشكل عُرفا"، قناعة رجال الدولة طيلة 63 سنة بأن هذا الحل المشؤوم انشأ "عُرفا سلبيا"، coutume négative) ou désuétude) يلغي حق حل البرلمان وذلك بالرغم من وجود نص دستوري صريح يكرس هذا الحق.

Cf. Francis HAMON et Michel TROPER, (2014), Droit constitutionnel, Paris, LGDJ, 35ème éd.,p.56

أما في لبنان فإن القناعة بوجود مركز نائب رئيس مجلس الوزراء، عائد للطائفة الارثوذكسية، لا لُبس فيها. إذ منذ التعديل الدستوري لسنة 1990 الناتج عن اتفاق الطائف، لم تخلُ وزارة من نائب رئيس ارثوذكسي، مما يجعله عُرفا مستقرا كبقية الأعراف التي نشأت والتي بفضلها تم تكيّف الدستور مع خصوصية النظام السياسي.

فعلى سبيل المثال وليس الحصر، نذكر العُرف القاضي في ظل دستور سنة 1926 بأن يعين رئيس الجمهورية شخصية سنّية بعد مشاورات نيابية وبأن يقوم الرئيس المكلف بتشكيل الحكومة بالتشاور مع رئيس الحكومة وذلك خلافا لمنطوق المادة 53 من الدستور التي كانت تنص، قبل تعديل سنة 1990، على أن "رئيس الجمهورية يعيّن الوزراء ويسمي منهم رئيسا ويقيلهم". كذلك العُرف القاضي بأن يوقع رئيس الحكومة مع رئيس الجمهورية المراسيم. وبصورة عامة فإن جميع صلاحيات رئيس الحكومة كانت عرفية في ظل دستور سنة 1926 الذي لم يأت على ذكره إلاّ في مادتين وبشكل عابر: المادة 53 الآنفة الذكر والمادة 66: "... ويُعدُّ بيان خطّة الحكومة ويُعْرَضُ على المجلس النيابي بواسطة رئيس الوزراء أو وزير يقوم مقامه". وأخيرا العُرف المستقر الذي يقضي بتوزيع المناصب الثلاثة العليا في الدولة على الطوائف الثلاث الكبرى والذي يتمتع، بدون أدنى شك، بقوة لا تضاهيها قوة أي نص دستوري مكتوب.


أستاذ جامعي في القانون العام متقاعد- كلية الحقوق- جامعة ستراسبورغ - فرنسا    


(الجزء الثاني غدا)



المنشورات ذات الصلة